كلمة رئيس مجلس الوزراء نواف سلام لمناسبة الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية في المكتبة الوطنية

كلمة رئيس مجل _الوزراء الدكتور نواف سلام في إفتتاح معرض صور، “خمسون في خمسين”، لمناسبة الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية في المكتبة الوطنية:
نقف اليوم، في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب في لبنان، لا لنفتح جراحاً لم تندمل، بل لنسترجع دروساً يجب ألا تُنسى، ولنُحيي في ذاكرتنا الجماعية ما مرّ به وطننا من ألمٍ ودمار، علّ الذكرى تكون سداً منيعا يحول دون تكرار المأساة التي عرفتها بلادنا.
منذ خمسين سنة انطلقت شرارة حربٍ دموية مزّقت لبنان بكل مناطقه وطوائفه وفئاته الاجتماعية على مدى 15 عاماً. سقط عشرات الآلاف من الضحايا، وتشرّد مئات الالاف، وضاع من ضاع من الاهل والاحبّة بين مفقودين ومخطوفين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
نستذكر اليوم عنف الحرب، والخطوط الحمراء والخضراء، بل السوداء، التي قطّعت جغرافيا وطننا، وقسمت مدننا وبلداتنا، نستذكر الرعب الذي عايشه كل لبناني في بيته، او في مركز عمله، او عند محاولته الانتقال من منطقة الى أخرى.
نستذكر عاصمتنا بيروت وكيف تحولت من مركز للتلاقي والحوار والتفاعل الى ساحة للقتال والدمار والفلتان المريب.
نستذكر أيضاً الصمت الثقيل الذي تلى الحرب، ولا سيما المصارحة التي لم تكتمل، والعدالة التي لم تتحقق. ويكاد كل بيت في لبنان يملك قصة معلّقة مع تلك الحرب: قتيلٌ لم يُدفن، مخطوفٌ لم يُعَد، أو خوفٌ متجذّر في النفوس من عودة تلك الأيام السوداء. كلها حكايات ما زالت ماثلة أمامنا، وهي تستدعي منا العِبرة وتوجب علينا التبصّر.
لكننا لا نقف اليوم فقط لنتذكر الماضي، بل لننظر أيضاً إلى المستقبل. خمسون عاماً مرّت، ولبنان ما زال يصارع من اجل النهوض. شبابنا الذين لم يعايشوا الحرب، يعيشون اليوم في ظل تبعاتها، ويدفعون ثمن نظامٍ متكلّس، ومصالح ضيّقة ما زالت تحكم الوطن، تقيّد طاقاتهم وتكبت طموحاتهم.
أيها السادة،
لقد بات واضحاً من مراجعة نتائج حروبنا على مدى الخمسين الماضية أن لا أحد يربح فيها. فكل الأطراف كانت في المحصلة خاسرة، وكل الانتصارات فيها تبيّن انها زائفة. كيف لا وقد أدت الحروب المتعاقبة منذ 1975 الى تهديد امن البلاد، وزعزعة استقرارها، وانتهاك سيادتها، واحتلال أجزاء منها، ناهيكم عن قتل وتشريد وتهجير وافقار مئات الالاف من أهلها. فلقد آن الأوان لنواجه كل خطاب يفرقنا ويفرزنا طوائف ومذاهب وجماعات وأحزاب متناحرة، ولنبني خطاباً يوحّد ويداوي ويؤسس لدولة المواطنة الجامعة.
ولعل الدرس الأهم من هذه المراجعة انه مهما تباينت الآراء وتضاربت في أسباب الحرب التي اندلعت عام 1975، فهي كلها تتقاطع عند مسألة غياب الدولة او عجزها. فالقول عشيّة الانفجار الكبير بالغبن والحرمان من جهة، او الخوف على الوجود والقلق على الهوية من جهة أخرى، أسباب تعود كلّها الى قصور الدولة في تأمين شروط المساواة وتحقيق العدل بين أبنائها وتوفير الامن لهم وضمان المصير. وحتى القول بتغليب دور العوامل الإقليمية والدولية في تفسير جذور الازمة او مساراتها فهو يرجع الى فشل الدولة في تحصين الاستقلال والحفاظ على السيادة، فراح كل فريق يعقد التحالفات الخارجية ويستقدم السلاح ويستنجد بالدول الأجنبية وجيوشها اذ لا دولة عنده تبعث بالثقة او توحي بالاطمئنان. ولا بد من الإضافة الى كل ذلك كم كانت مؤسسات الدولة هشّة أصلاً وادارتها مرتهنة عند امراء الطوائف.
والحقيقة انه كما كان غياب الدولة او عجزها هو المشكلة، فلا حلّ الا بإعادة بنائها.
لنعود اذن الى ما ارتضيناه ميثاقاً في ما بيننا لا لوقف الحرب فحسب، بل لإعادة بناء الدولة على قاعدة متينة من الإصلاح، وعنيت بذلك اتفاق الطائف. فلنطبق بنوده بالكامل، ولنصوّب ما طبق منه خلافاً لنصه او روحه، ولنعمل على سدّ ما تبيّن فيه من ثغرات، وعلى تطويره كلما دعت اليه الحاجة. ولأن اتفاق الطائف قال ببسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية، وهو ما تخلّفنا عنه طويلاً، فلا بد من التشديد اليوم ان لا دولة حقيقية الا في احتكار القوات المسلحة الشرعيّة للسلاح، فهي وحدها التي توفر الامن والأمان لكل المواطنين وهي وحدها القادرة على بسط سلطة القانون في كل ارجاء البلاد وعلى صون الحريات العامة والخاصة. وهذا ما اكّد عليه البيان الوزاري لحكومتنا، حكومة الإنقاذ والإصلاح.
السيدات والسادة،
فلنعمل اذن من اجل دولة قوية عادلة تُعيد الثقة إلى شبابنا، دولة حديثة نعيد بناء مؤسساتها على أساس الكفاءة لا الزبائنية، دولة مدنية تضع في قلب سياساتها الإنسان الفرد، المتساوي في الحقوق والواجبات مع شريكه في المواطنة، لا الطائفة او المذهب.
دولة تحفظ الذاكرة لنتعلم من ماضينا كي لا نكرر اخطاءنا، بل خطايانا تجاه بعضنا البعض.
دولة تثمن مبدأ المسائلة وترفض منطق “عفا الله عمّا مضى”، دولة تقوم على قوة القانون لا على هشاشة منطق “تبويس اللحى”.
ولان الجروح لا تختم على زغل، فان مسؤولية الدولة هي ان تعالج ايضاً ملفات المفقودين والمخطوفين بجدية وشفافية وصولاً الى الحقيقة لأنها وحدها ما يحقق العدالة المنشودة.
فلنجعل من الذكرى الخمسين نقطة تحوّل، لا مجرد لحظة للتذكر..
فلننظر معاً إلى الأمام، إلى لبنانٍ جديد، يليق بتضحيات أبنائه، ويحتضن طموحات شبابه.
لكل ذلك، ولكي تكون الذكرى لحظة للتفكير بعبر الماضي وحافزا الى غد أفضل، فإنني ادعو الى دقيقة صمت وطنية شاملة ظهر 13 نيسان، في تمام الساعة الثانية عشرة، تتوقف فيها الحركة في كل مكان لنكون اجتمعنا، جميع اللبنانيين، تحت شعار “منتذكر سوا، لنبني سوا”.
رحم الله كل شهدائنا، شهداء كل لبنان، وشفى الجراح التي لم تلتئم بعد،
حمى الله لبنان واللبنانيين.