مقالات

حربُ تهويلٍ أميركية روسية: فُرص التسوية الأوكرانية غير معدومة

عشية اللقاء الحاسم الذي سيَجمع اليوم وزيرَي الخارجية الأميركي والروسي، يتواصل الشدّ والجذب بين الدولتَين على خلفية ما يحدث في أوكرانيا. وعلى رغم تصاعُد التراشُق الكلامي، الذي تجلّت آخر صوره في تحذير جو بايدن، موسكو، من غزْو جارتها، وردّ الكرملين بالتنبيه إلى خطورة البعْث بـ«رسائل خاطئة إلى المتهوّرين الأوكرانيين»، إلّا أن المراقبين والمحلّلين لا يعدمون أملاً في إمكانية التوصّل إلى تسوية، بالاستناد أساساً إلى انعدام رغبة كلا الطرفين في الانجرار إلى حرب، من دون أن ينفي ذلك استعداد روسيا للجوء إلى «الإجراءات العسكرية – التقنية»، إذا ما لمست أن لا سبيل آخر أمامها لمنْع توسيع «الناتو» شرقاً

لم تؤدِّ المفاوضات التي دارت خلال الأسبوع الماضي بين الأميركيين والروس في جنيف، ومن ثمّ في إطار «مجلس روسيا – الناتو»، وأخيراً في داخل «منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا»، إلى أيّ نتائج إيجابية. لكن هذا لا يَمنع محلّلين من التفاؤل بإمكانية الخروج من المأزق الحالي، إذا توافرت الإرادة لدى الأطراف المعنيّة. رَفضت واشنطن مطلبَين رئيسيَين لموسكو، أوّلهما يتعلّق بتقديم حلف «الناتو» ضمانات رسمية بعدم انضمام أوكرانيا وجورجيا إليه؛ وثانيهما يرتبط بانسحاب القوات الأميركية من البلدان التي باتت عضوة في الحلف بعد 1997. المطلب الوحيد الذي وجد قبولاً نسبياً مِن طَرف الأخير، هو ذلك الخاص بالتخفيض المتزامن بينه وبين روسيا لوتيرة وحجم الأنشطة العسكرية بين بحر البلطيق والبحر الأسود.
إريك بورغوس، الباحث في «مرصد أوراسيا»، والمتخصّص بالسياسة الخارجية الروسية، يَعتقد بأن الجولة الديبلوماسية المُشار إليها أظهرت نجاحاً للحكومة الروسية في فرْض إعادة التفاوض حول قضايا الأمن في أوروبا على جدول الأعمال الأميركي. «هذه المفاوضات، التي لم تَنجم عنها نتائج ملموسة حتى الساعة، هي بحدّ ذاتها انتصار لاستراتيجية الضغط على المصالح الأميركية التي تعتمدها موسكو. هي عكست أيضاً درجة تهميش أوكرانيا والاتحاد الأوروبي عن المسار الراهن بمجمله. هذان الطرفان بنظر الروس خاضعان تماماً لواشنطن، ما يبرّر التفاوض المباشر والحصري معها». إيغور دولانوي، المدير المساعد لـ«المرصد الفرنسي – الروسي في موسكو»، مقتنعٌ، من جهته، بأن منْع انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى «الناتو» هو الهدف الأول للكرملين، وأن الأخير مستعدّ حتى للجوء إلى الخيار العسكري، إن انعدمت الخيارات الأخرى، لبلوغ هدفه هذا. «يكفي الاطّلاع على الوثيقتَين التي أعلن عنهما الكرملين في 17 كانون الأول الماضي، أي مشروع المعاهدة مع الولايات المتحدة، ومشروع الاتفاق مع الناتو، للتأكُّد من مركزية هدف وقْف توسيع الناتو شرقاً. عدم أخذه في الاعتبار سيدفع روسيا إلى اتّباع ما تُسمّيه الإجراءات العسكرية – التقنية كردّ على هذا التعاطي. هناك العديد من المؤشّرات المقلقة، كالمناورات الكبرى في جنوب روسيا قرب الحدود مع أوكرانيا، لتشديد الضغوط على الغربيين»، بحسب دولانوي.
قد يتيح تطبيق الشقّ السياسي من «اتفاقية مينسك» التوصّل إلى تسوية

قد تلي هذه المناورات ضرباتٌ جوّية أو صاروخية ضدّ مواقع عسكرية أوكرانية، بخاصة تلك التي تحوي مُسيّرات تركية الصنع، وفقاً لإريك بورغوس. «من الممكن أن نشهد أيضاً نشْراً للصواريخ المتوسّطة المدى على امتداد الحدود الروسية – الأوكرانية، واستهدافاً لقواعد الناتو في بولونيا ورومانيا بالصواريخ الفرط صوتية الروسية الجديدة. أخيراً، فإن الاعتراف المحتمَل الرسمي بجمهوريتَي دونتسك ولوغانسك سيمثّل ردّاً سياسياً قوياً من طرف روسيا». لكن دولانوي يرى أن إخضاع هذه المقاربة لحسابات الربح والخسارة سيوضح أنها ليست ملائمة لمصالح روسيا، وأنها ستتسبّب بمشكلات إضافية بالنسبة لها. هو يجزم أن موسكو تُراهن في الحقيقة على عدم وجود رغبة لدى واشنطن في التورّط في حرب. «الحسابات الروسية تأخذ في الاعتبار سياق التنافس بين الصينيين والأميركيين، وكذلك عامل التوقيت. لا ريب في أن الكرملين مدركٌ أن الأوضاع الراهنة أقلّ ملاءمة لاستراتيجية التأزيم التي يتّبعها، من تلك التي سادت قبل بضعة أشهر، عندما كانت أوكرانيا على حافّة الانهيار الاقتصادي، وتعاني من انقسامات سياسية متأجّجة. أظنّ أن ما يريده الروس، على الرغم من تلويحهم بالخيار العسكري، هو صفقة مع جو بايدن، الذي ما زال يتمتّع بأقلّية ضعيفة في داخل الكونغرس. الانتخابات النصفية ستتمّ هذه السنة، ومن المرجَّح أن يخسرها الحزب الديموقراطي. الروس يرغبون في اتفاق يحظى بموافقة الكونغرس، والمطلوب بالنسبة لهم هو التوصّل إليه خلال الأشهر المتبقّية قبل هذه الانتخابات. لم يتطلّب الأمر أكثر من 8 أشهر للتوصُّل مع الأميركيين إلى اتفاق ستارت الجديد. ربّما يتصوّر الكرملين أن باستطاعته عقْد صفقة مع إدارة بايدن قبل نهاية هذه السنة».
إريك بورغوس يَعتبر أن الحسابات الروسية تنطلق أساساً من تقدير دقيق لحقيقة الموقف الأميركي من أوكرانيا، مفاده أن الأميركيين غير مستعدّين للموت من أجل حليفتهم، على عكس الروس المستعدّين لذلك، في معركة يرونها دفاعية عن بلادهم. «الروس جاهزون للقتال والموت في سبيل أوكرانيا التي تحتلّ بنظرهم موقعاً مركزياً، تاريخياً وثقافياً، بالنسبة لروسيا. لسْت واثقاً بأن الأميركيين سيهرعون لمساعدة أصدقائهم في كييف إذا اندلعت المواجهة. ستُفرض عقوبات اقتصادية قوية على روسيا، قد تصل بحسب البعض إلى إخراجها من نظام سويفت المصرفي العالمي، لكنّني غير مقتنع بأن واشنطن ستتصدّى مباشرة للروس في أوكرانيا». إضافة إلى ما تَقدّم، هو يَعتقد أن الحديث عن مأزق كامل في المفاوضات الروسية – الأميركية يتضمّن قدْراً كبيراً من المبالغة، لأن تطبيق الشقّ السياسي من «اتفاقية مينسك» سيتيح التوصّل إلى تسوية، علماً أن هذه الاتفاقية تضمّنت اقتراحاً باعتماد اللامركزية في أوكرانيا، ومنْح حكم ذاتي موسّع للسلطات في مقاطعتَي دونتسك ولوغانسك. «إذا تمكّنت باريس أو برلين أو واشنطن من أن تحصل من كييف، ربّما بعْد ممارسة حدّ معيّن من الضغط عليها، على تعهّد بالالتزام باتفاقية مينسك، وشرَع الناتو بخطوات بناء ثقة ملموسة، ستلي ذلك إجراءات فعلية لتخفيض التوتّر. تُتّهم روسيا بأنها حشدت 100 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، لكن ما لا يجري التطرّق إليه هو أن الأخيرة جمعت 125 ألف جندي على طول الحدود مع روسيا في كانون الأول الماضي. ليست روسيا وحدها مَن يثير التوترات في أوروبا»، يختم بورغوس، مشدّداً على ضرورة حضّ كييف على تطبيق «اتفاقية مينسك» حتى لا تتفاقم الأزمة، وتقود إلى ما لا تُحمد عقباه.

الكاتب: لينا كنوش
المصدر: الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى