لبنان

الجمهورية: نائب حاكم مصرف لبنان: لهذه الأسباب ينبغي تحرير سعر الصرف..

كتبت الجمهوريّة: 
هل تحرير سعر الصرف قرار محتوم لا بدّ منه في هذه المرحلة رغم المخاوف التي يبديها البعض حيال التطورات التي قد تطرأ على سعر صرف الليرة، بعد إخضاع السوق لمعايير العرض والطلب؟ وما هي المعايير الاقتصادية والعلمية التي تمّ الاستناد اليها لاتخاذ قرار وقف دعم الليرة؟
مع بدء الاستعدادات للانتقال إلى مرحلة جديدة في سوق الصرف، تتمثل بدخول «بلومبرغ» على الخط، كمنصّة تداول سيتمّ اعتمادها للتداول، والسماح لسعر الليرة بأن يكون عائماً، ومتغيّراً وفق معايير السوق، اي العرض والطلب، هناك قلق شعبي من ان يكون البلد مقبلاً على مرحلة صعبة من التقلّبات في سعر العملة الوطنية، وأن يقفز سعر الدولار الى مستويات قياسية غير مسبوقة بسبب انتهاء مرحلة تدخّل مصرف لبنان في السوق داعماً لليرة بأي شكل من الأشكال. هذا القلق الشعبي يدفع الى طرح سؤال آخر: هل انّ لبنان مضطر إلى سلوك طريق تحرير سعر الصرف؟ ووفق اي قواعد اقتصادية وعلمية تمّ اتخاذ هذا القرار من قِبل حاكمية مصرف لبنان؟
عن هذا التساؤل، يجيب النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان د. سليم شاهين، مفنداً المبدأ الاقتصادي الذي يوجب تحرير سعر الصرف كضرورة اقتصادية.
يقول شاهين: «فشلت الحكومات المتعاقبة ومجلس النواب خلال السنوات الماضية بالتوافق على قانون ضبط رأس المال (كابيتال كونترول)، واعتمدوا على المصرف المركزي وتعاميمه لتحديد سقوف السحوبات من الحسابات المصرفية. من جهتها، تصرّ الهيئات الاقتصادية بشكل متواصل على أهمية حريّة تحرّك رؤوس الاموال لحماية الاقتصاد اللبناني من التدهور، خصوصاً لجهة تفعيل القطاع الخاص، وتشجيع المبادرات الفردية، وحماية العمالة، لاسيما في غياب الاصلاحات الاقتصادية والمالية.
في المقابل، نصرّ كأعضاء مجلس مركزي لمصرف لبنان منذ تعييننا في العام 2020، على مبدأ استقلالية المصرف المركزي في سياسته النقدية إزاء السياسة المالية المعتمدة من الحكومة. وبالتالي أكّدنا على ضرورة التوقف عن تمويل عجز مالية الدولة، والانغماس في تمويل دينها العام وسياسات الدعم والهدر للاحتياطات بالعملات الاجنبية، لأنّه يتعارض مع تثبيت سعر الصرف والحفاظ على احتياطيات المصرف المركزي…
واعتمدنا بذلك على قانون النقد والتسليف من جهة، وعلى العلم النقدي والادبيات الاقتصادية التي تحدّد الدور الأساسي للمصارف المركزية، باعتماد السياسات التي تهدف للحفاظ على استقرار الاسعار وسلامة النقد لتأمين نمو اقتصادي مستدام من جهة أخرى… وبغياب الاصلاحات وانعدام الثقة بالمؤسسات، تبقى إمكانية عملنا كسلطة نقدية محدودة، وتتعلّق بالمجمل بالتوقف عن إقراض الدولة وحسن ادارة حجم الكتلة النقدية وانعكاساتها على سعر الصرف.
وإذا اتفقنا كمجتمع متكامل بكل تبايناته السياسية والعلمية على حرّية حركة رأس المال وضرورة استقلالية السياسات النقدية، فمن الضروري علمياً معرفة أنّ هذين العاملين لا يمكن أن يحصلا بالتزامن مع سياسة تثبيت سعر الصرف من قِبل المصرف المركزي. وهذا ما أكّدته النظريات العلمية، لا سيما منها ما يُعرف بالثالوث المستحيل، او «Impossible Trinity» منذ «مونديل» و»فلمينغ» في 1962.
ومع العلم، أنّ تثبيت سعر الصرف يسمح بالحدّ من التضخم والتأثيرات السلبية الناتجة من تغيّرات سعر الصرف على القدرة الشرائية والاقتصاد المحلي، فإنّ هذا الخيار بغياب الاصلاحات هو عملية مكلفة على احتياطات المصرف المركزي واموال المودعين، كما أثبتت التجربة اللبنانية خلال السنوات السابقة.
باختصار، عمد لبنان منذ عام 1993 الى تثبيت سعر الصرف في اقتصاد مدولر مع حرّية حركة رؤوس الأموال، الأمر الذي أثّر سلباً على استقلالية السياسة النقدية. وخلال هذه الفترة، لجأت الحكومات الى المصرف المركزي الذي انغمس بطباعة النقد وإعطاء سلفات الخزينة و/او الاكتتاب المتواصل بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية كما بالدولار الأميركي وصولاً الى الهندسات المالية، مع تدخّل متواصل في سوق القطع للحفاظ على سعر صرف وهمي. وازداد تدخّل المصرف المركزي مع تراكم العجز في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، ومن ثم مع سياسة الدعم منذ انفجار الأزمة عام 2019، مما أدّى الى استنزاف احتياطي الدولارات في البنك المركزي وتجريده من وظيفته الاساسية كما من أدوات الدفاع عن هدفه.
فوفق «الثالوث المستحيل»، إذا كان سعر الصرف مثبّتاً، ودخل البلد في أزمة أدّت الى هروب رؤوس الاموال، يتوجّب على المصرف المركزي أن يرفع سعر الفائدة لاستقطابها مجدداً. وعليه، فمن غير الممكن للمجتمع أن يطلب استقلالية السلطة النقدية وحرّية رأس المال مع تثبيت سعر الصرف، وينتظر من المصرف المركزي التأكيد على تثبيت سعر الصرف من دون كلفة استنزاف ما تبقّى من دولارات لديه، ومن دون الطلب من المجتمع السياسي إقرار القوانين الاصلاحية التي تسمح بإعادة الثقة ووضع الامور على المسار الصحيح».
وعن الخيارات المتاحة امام المصرف المركزي للتعامل مع الوضع القائم اليوم، يشرح شاهين انّه «اذا اعتبرنا أنّ استقلالية المصرف المركزي في السياسة النقدية ثابتة أساسية، فعلينا الانتقاء بين خيارين لا ثالث لهما:
(1) تحديد سعر الصرف مع تقييد حركة رؤوس الاموال مما يحدّ من التغيّرات في سعر الصرف.
(2) تحرير حركة رؤوس الاموال وتحرير سعر الصرف. علماً أنّ الخيار الاخير يتطلّب من المجتمع أن يتقبّل تغيّرات سعر الصرف، وأي محاولة لتثبيت سعر الصرف من قِبل المصرف المركزي من دون اصلاحات ستكون مكلفة وستستهلك الدولارات المتبقية لدى مصرف لبنان».
وعليه، يختم شاهين، فإنّ «العمل على تحسين أداء السلطة النقدية عبر اعتماد آلية عمل شفّافة ومبادئ حوكمة فاعلة وعلمية، مثل اعتماد منّصة الكترونية عالمية كما هي «بلومبرغ» لتحرير وتحديد سعر الصرف بناءً على عملية العرض والطلب، يجب أن يتزامن مع الاصلاحات الضرورية، بدءاً بموازنة متوازنة وميزان مدفوعات وحساب جارٍ متوازنين، مروراً بالعمل على اعادة الثقة بالمؤسسات الحكومية والمصرفية، وصولاً الى اعتماد نظرة اقتصادية واضحة لتحقيق النمو المتوازن لمختلف القطاعات، وفق الدور الاقتصادي المناسب لخصوصية نظام لبنان وبنيته الهيكلية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى