لبنان

الأخبار: وقائع مراسلات تكشف خفّة رئاسة الحكومة في التعامل مع ملف الفيول: ميقاتي غير مهتمّ لمصير الكهرباء

كتب محمد وهبة في الأخبار: 

فجأة، اعتقد أحد ما في القصر الحكومي، أن «اختراع» مشكلة الكهرباء واتّهام وزير الطاقة وليد فياض بالغشّ والتقصير، هما القناة التي توقف إحراج قوى السلطة وعلى رأسها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعدما قرّر حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري وقف تمويل الدولة بالعملة الأجنبية. ميقاتي يدرك بفطنته «الصناعية» البسيطة، أنه لا يمكن إنتاج الكهرباء بلا فيول مستورد يُدفع ثمنه بالعملة الأجنبية، فلجأ إلى بدعة قديمة تفترض وجود «سوء إدارة» وتخلق جدلاً حول الأمر، يستمرّ لغاية تكريس وقائع جديدة. أي التوقف عن استيراد الفيول واستهلاك المخزون الاستراتيجي المتوافر حتى آخر قطرة. وبعدها يأتي «الفَرَج». أي «فَرَج»؟ لا أحد لديه فكرة، لا ميقاتي ولا أحد غيره من قوى السلطة. الفرج الوحيد المتاح هو العتمة.

قبل بضعة أيام، سُرّب كلام منقول عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يشير فيه إلى أن مخزون الفيول لدى مؤسّسة كهرباء لبنان في أقصى مستوياته، وأن بواخر الفيول التي استوردت بصفقات «مشبوهة» يتم تفريغها بلا فحوصات مخبرية، ما يعني أن رئيس الحكومة غير مُلزم بالدفاع عن هذه الشحنات، ولا عن الاتفاق الذي عُقد مع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة بشأن تحويل مبلغ 300 مليون دولار وتمويله بسلفة خزينة.

لم يتأخّر ردّ وزير الطاقة وليد فياض بالوثائق على هذه الاتهامات، وأرسل ملفاً إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء يظهر أن مجلس الوزراء وافق في 18/1/2023 على إعطاء سلفة خزينة للكهرباء بقيمة 300 مليون دولار منها 264 مليوناً مخصّصة لشراء المحروقات لزوم تشغيل معامل الإنتاج. وبناءً على المرسوم 10962 فُتحت الاعتمادات المؤجّلة الدفع لستة أشهر لاستيراد 87 ألف طن فيول، وأُطلقت مناقصة عمومية لذلك نُشرت على موقع هيئة الشراء العام بتاريخ 26/4/2023. أتى عارض وحيد، فأعيدت الصفقة، ثم جرى تلزيمها مجدداً وفازت فيها شركة «Coral Energy DMCC». سلكت الصفقة مسارها القانوني، إلى أن راسلت وزارة الطاقة مصرف لبنان عبر وزارة المال، طالبة منه فتح اعتمادات بقيمة 58.87 مليون دولار، علماً أن لمؤسسة كهرباء لبنان رصيداً من سلفة الخزينة غير مستعمل بقيمة 102 مليون دولار. ووصلت الشحنة إلى لبنان بتاريخ 8/8/2023 لكنها لم تفرّغ حمولتها بسبب عدم فتح الاعتماد، ما كبّد الخزينة نحو 126 ألف دولار غرامة تأخير حتى الأمس، كما أنها جاءت نتائج التحاليل المخبرية التي أجرتها شركة «بيرو فيريتاس» إيجابية لجهة التحقق من المواصفات المطلوبة.
رغم دقّة الردّ، إلا أنه لم يُطفَأ الحريق الذي اندلع. ميقاتي «لعّيب». فهو يعلم أنه بمجرّد الردّ ستتحوّل الأنظار عن المشكلة الفعلية: للخزينة حاجة كبيرة إلى الدولارات أكبر من قدرة مصرف لبنان على توفيرها. ولولا النقص في الدولارات لما كانت المشكلة تتعلق بتشغيل معامل الكهرباء كما هي الآن، بل كانت ستعود إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، أي مشكلة الاستثمار في الكهرباء وتقاسم المنافع وترتيب الحصص.

ونقل مقرّبون من الحاكم بالإنابة وسيم منصوري قوله بأنّه يريد المساهمة في معالجة أزمة تشغيل الكهرباء، إنما «لا يجب أن يكون الأمر خارج أولويات المصرف المركزي القاضية بالحفاظ على الاستقرار النقدي»، ولا يمكن أيضاً أن يتم ذلك خارج الأولويات التي تحدّدها الحكومة. فرئيس الحكومة حدّد أولويات ما بعد الاستقرار النقدي وفق الترتيب الآتي: تسديد رواتب القطاع العام بالدولار النقدي، تأمين حاجات القوى الأمنية من مازوت وتجهيزات ضرورية وسواها، ثم تأمين حاجات الاتصالات والكهرباء وما تبقّى من طلبات لدى القطاع العام.
إذاً، الكهرباء ليست أولى الأولويات! هذه ليست مسألة جديدة على سلوك قوى السلطة. فمع انفجار الأزمة عمد حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، إلى تقليص تمويل شحنات الوقود لتشغيل معامل الكهرباء من الحدّ الأقصى الذي كان مفتوحاً بموجب سلفات خزينة، إلى الحدّ الأدنى الذي لا يتيح إنتاج أكثر من ثلاث ساعات كهرباء، وفي بعض الأحيان كان الإنتاج لا يتجاوز ساعة واحدة من الكهرباء يومياً. ذلك كان قبل أن ينغمس لبنان في تسوّل الفيول من العراق، وفي التفاوض على عقود مع مصر والأردن لاستجرار الكهرباء والغاز اللازم لتشغيل المعامل. وبحسب أرقام مصرف لبنان، سجّل متوسط إنتاج الكهرباء في عام 2019 نحو 1233 مليون كيلوواط ساعة، ثم انخفض إلى 1027 مليون كيلوواط ساعة في عام 2020، و655 مليون كيلوواط ساعة في عام 2021، و235 كيلوواط ساعة في عام 2022. أما في كانون الثاني 2023 فقد سجّل إنتاج 98 مليون كيلوواط ساعة.

بدلاً من ذلك، سخا سلامة وقوى السلطة على تمويل استيراد المحروقات بكلّ مشتقاتها من بنزين ومازوت ووقود طيران وزفت وغيرها، حتى أُنفق مما يسمى توظيفات إلزامية بالعملة الأجنبية أكثر من 10 مليارات دولار. ومع الوقت، قرّر سلامة الاكتفاء بما بدّده من هذه الأموال، وعمد إلى تقنين عمليات التمويل للكميات المستوردة من المشتقات النفطية إلى أن فرض عملية رفع الدعم عن أسعارها بشكل كامل، أي بات سعرها يعادل سعر الصرف في السوق، وهذا ما طبّقه أولاً على المازوت ثم على البنزين. وانتهى الأمر بأن الشركات المستوردة صارت تشتري الدولارات المتدفّقة إلى السوق. بهذا المعنى، جرى تكريس وقائع جديدة، من أبرزها رفع الدعم عن الأسعار. أما اليوم، فما هي الوقائع الجديدة التي سيتم تكريسها بهذا المشكل الذي يُرمى بكامله على عاتق وزير الطاقة كأنّ ميقاتي وباقي البوطة من أركان السلطة لا يعلمون أن المشكلة الفعلية هي في أن للدولة حاجة إلى الدولارات يصعب تمويلها بلا اهتزاز سعر الصرف. مصرف لبنان الذي جمع لغاية الآن نحو 80 مليون دولار، يفضّل أن يضخّ الدولارات إلى نحو 400 ألف موظف في القطاع العام «ما يكرّس استقرار سعر الصرف لنحو 10 أيام كاملة» وفق مصادر مطّلعة. أما شراء الدولارات من السوق، فهو أمر لا يمكن القيام به إلا إذا توافرت الدولارات، أي إنه في الفترة المقبلة حين تشحّ الدولارات المتدفّقة، سيكون هناك تنافس بين مصرف لبنان والتجار والمستوردين على شراء الدولار من السوق، وبالتالي قد لا يتمكن المصرف المركزي من شراء هذه الكميات وجمعها من السوق، بينما هو لا يريد أن يمسّ بما يسمّيه احتياطات بالعملة الأجنبية.

كلما وقفت قوى السلطة في مواجهة المشكلة، تقرّر سريعاً الحياد عنها. هذه المشكلة واضحة للعيان؛ لا يمكن أن تُستأنف الحياة في لبنان من دون إعادة إطلاق النظام المالي، وهذا يتطلب توزيعاً للخسائر مرتبطاً مباشرة بملّاكي المصارف وكبار المودعين ونفوذهم السياسي، بالتوازي مع خطّة اقتصادية واجتماعية يُكرس لها ما تبقّى من موارد. رغم ذلك، سلوك قوى السلطة يظهر أنها تفضّل تبديد الموارد من دون القيام بشيء!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى