الأخبار: من «صيرفة» إلى «بلومبيرغ»: مخاطر المنصّات.. هل بدأ لبنان تنفيذ الطلب الأميركي بإلغاء اقتصـاد الكاش؟
كتب محمد وهبة في الأخبار:
خلال لقاءاتهم مع المسؤولين عن الشؤون المالية والنقدية في لبنان، يركّز الأميركيون على أمر واحد أساسي هو «اقتصاد الكاش». يرون أن هذا النشاط يمثّل تهديداً فعلياً لكل عمليات التتبع لكميات الدولارات الورقية التي تنتشر حول العالم. فمع إفلاس المصارف التي كانت عملياتها مكشوفة عبر «سويفت» والمصارف المراسلة، أصبحت الخيوط تنقطع في لبنان. لذا، لا بدّ من ربط النشاط الاقتصادي في لبنان بطريقة مختلفة. يُقال إن الانتقال من منصّة «صيرفة» إلى منصّة «بلومبيرغ» بدعم مباشر من صندوق النقد الدولي، يؤمّن متطلّبات التتبع.
عندما أقرّ مصرف لبنان منصّة «صيرفة»، كان الهدف منها أن تكون بديلاً من القنوات التي يفترض أن تصل مصرف لبنان بالأسواق. الصلة انقطعت عندما أفلست المصارف وتعطّل عملها كأداة مالية وسيطة في الاقتصاد وقناة أساسية بين مصرف لبنان والأسواق بمعناها الواسع (أفراد وشركات). في السابق، كان تدخّل مصرف لبنان في السوق بائعاً أو شارياً للدولار يتم عبر المصارف، ومن خلال هذه القنوات كان يتم ضخّ الدولارات أو جمعها بعكس ما هو عليه الأمر الآن. فالمصارف لم تعد سوى «كونتوار» لا يمكنها أن تمارس دور الوساطة لأنها لم تعد محلّ ثقة.
هكذا خلقت منصّة «صيرفة»، إلا أنها سرعان ما تحوّلت إلى أداة نفعية تضمن للزبون أن «الكونتوار» (المصارف) لن يسرق الزبون، ولكنها لا تضمن أن «الكونتوار» لن ينهب ما أمكنه من أموال تمرّ عبر القناة التي تمتدّ بين مصرف لبنان والأسواق، أي «صيرفة». ولذلك لم يتضح ما هو اختصاص «صيرفة» أو مجال عملها. فهل هي قناة لدعم رواتب القطاع العام عبر تسديدها بالدولار؟ أم أنها قناة لضخّ الدولارات في السوق وضمان الحدّ الأدنى من السيطرة على سعر الصرف؟ أم هي مجال مفتوح لكل من يريد أن يحقّق ربحاً سخيّاً وسهلاً وسريعاً؟ الواقع أنها كانت كل ذلك، وهو ما أفقدها صدقيّتها وقضى على كل احتمال بتطويرها لتصبح منصّة تعبّر عن سعر الصرف الفعلي بإدارة مصرف لبنان وسياساته النقدية. ليس المقصود بأن الأهداف من خلق المنصّة لا يمكن أن تكون متعدّدة، إنما مجرّد أن تكون مفتوحة لكل من يشاء وبسقوف مالية مفتوحة، تحوّل دورها من منصّة تقيّد فيها عمليات البيع والشراء للدولار والليرة، إلى قناة توزيع أموال مجانية.
مخاطر «الشفافية»
سريعاً تحوّل ثناء خبراء صندوق النقد والبنك الدوليين على منصّة «صيرفة»، إلى نقد مرتبط بانعدام شفافيتها وابتعادها عن قواعد العمل الدولية ومعايير الامتثال. هذه المعايير كانت تفرض على لبنان، من خلال المصارف وعلاقاتها مع مصارف المراسلة ومع الزبائن، رقابة خارجية صامتة تشمل كل استعمال للدولار في لبنان. وبهذا المعنى، فإن الاتفاق مع «بلومبيرغ» أو غيرها لتكون الوعاء الذي تنفذ فيه عمليات البيع والشراء، لا يمكن أن يتم من دون أن يكون مصرف لبنان قد اتخذ قراره بشأن السياسة النقدية المتبعة:
– أن يكون سعر الصرف محرراً (عائماً)، وأن يكون مداراً بمعنى أن يتدخّل مصرف لبنان لمنع التقلّبات الحادّة في سعر الصرف.
– أن تعبّر التداولات الحرّة في سوق القطع عن السعر الفعلي بما يعكس قوّة النشاط الاقتصادي تجاه الداخل والخارج.
هذه ليست سوى النظرة البسيطة للتعامل مع سعر الصرف، إنما بساطتها تثير الكثير من الأسئلة في بلد يعاني من انهيار في النظام المالي، بينما يرفض مصرفه المركزي إنفاق أي دولار من الاحتياطات للدفاع عن الليرة أو لأي استخدامات أخرى، والمصرف المركزي أيضاً ليس لديه وصول إلى السوق بسبب إفلاس المصارف وانعدام الثقة بها وبه، والمنصّة السابقة التي خلقها المصرف المركزي تبيّن أنها أداة دعم وتوزيع للدولارات بشكل مجاني، كما نحولت الى نسخة منقّحة من آلية الدعم التي نفذت في السنوات الماضية وموّلت التجار والمستوردين بالعملة الأجنبية من موجودات مصرف لبنان. فهل ستنقل منصّة «بلومبيرغ» نحو مستوى مختلف جذرياً، أم أنها ستبقى نسخة أكثر تنقيحاً من سابقاتها؟
الإجابة تتطلب دراسة للمخاطر وفق الآلية الجديدة. لأن «بلومبيرغ»، تنشأ وفق عنوان أساسي هو «الشفافية»، أي أن العمليات التي ستنفذ عليها ستكون مكشوفة للجميع، وبإمكان أي جهة لديها ترخيص للعمل في لبنان في المجال المالي أن تقدّم عرضاً لبيع أو شراء الليرات والدولارات على المنصّة. وفي نهاية النهار، لن يكون للمنصّة عمل سوى ربط العرض بالطلب وتحديد الكميات والهويات. أما التسوية الفعلية فستنفّذ لدى مصرف لبنان أو لدى مؤسّسات التسوية المرخّصة والتي قد تكون «ميدكلير» (في لبنان) أو أي مؤسسة في الخارج. وبمجرد إنجاز التسوية، ستكون هناك حوالات بين البائعين والشارين بحسب قيمة ما لهم وما عليهم. إنه نظام مقاصة تقليدي، لكنه يظهر للجميع حجم العمليات التي نفذتها هذه الجهة أو تلك، وبالتالي فإنه يبرّر لأي مصرف مراسل، أو جهة خارجية تعنى بالرقابة على الدولارات، أن تطلب من المصرف مباشرة أو عبر هيئة التحقيق الخاصة معلومات عن عمليات نفّذتها المؤسّسة. وبالتالي سيكون على هذه المؤسسة (لنفترض أنه صراف مصنّف (أ)، أو مصرف، أو مؤسسة مالية) أن تبرّر مصدر الأموال. وبذلك، كل العمليات التي تدخل إلى نظام التسوية يجب أن تخضع للامتثال، وإلا ستكون المؤسسة خاضعة للعقوبات الأميركية.
لكن المخاطر لا تقتصر على ذلك، إذ إن وجود سعر صرف عائم لا يعني أن المصرف المركزي سيبقى مكتوف اليدين، بل يتدخّل في السوق عندما يرى موجباً لذلك. في العالم كلّه، ليس هناك سعر صرف عائم بشكل حرّ بالكامل، إنما هناك حدود لتدخلاته. وهذه الحدود تتطلب أن يكون لدى هذا المصرف قدرة على التدخل، أي أن تكون لديه قدرة للوصول إلى السوق والتخاطب معه، وأن تكون لديه احتياطات بالعملات الأجنبية تتيح له التدخّل بشكل فعال للسيطرة على التقلبات التي يعتبرها خطيرة. وبالتالي، فإنه في حالة لبنان حيث يجري الحديث عن عمليات حرّة ومكشوفة للجميع بعنوان «الشفافية»، سيعني أن بإمكان أي جهة في الخارج، أن تتلاعب بسعر الصرف من خلال تقديم عرض للبيع أو طلب للشراء. وهذا قد يحصل اليوم أو في أي فترة زمنية لاحقة. فالسوق اللبنانية هي سوق سطحية ويمكن التلاعب فيها بكل سهولة، ولا سيما إذا كان المصرف المركزي يعاني من شحّ في السيولة بالعملة الأجنبية وهو يعجز عن التدخّل في السوق، وحتى لو أراد التدخّل فإن قدرته في ظل محدودية السيولة بالعملات الأجنبية متدنّية جداً وتقتصر على بضعة أيام.
هجمات المضاربين سياسية
في هذا الإطار، يمكن تفسير الرغبة العارمة لدى المسؤولين الأميركيين وانخراط صندوق النقد الدولي في نقد «صيرفة» (بمعزل عن أنها تستحق نقداً أكبر بعدما حوّلها الحاكم السابق رياض سلامة إلى قناة توزيع للمال المجاني بدلاً من منصّة سوق القطع) تمهيداً لاقتراح «بلومبيرغ». فالأميركيون يرغبون في تتبع النقد الأجنبي الوافد إلى لبنان من الخارج، و«اقتصاد الكاش» يحول دون ذلك، لذا فإن الطريقة المثلى الآن هي في توجيه الكاش نحو آليات تخضع للرقابة المحلية والخارجية. أصلاً، لا معنى للشفافية إذا لم يكن في نية مصرف لبنان التدخّل دفاعاً عن تقلبات سعر الصرف. فالكتل المالية المضاربة (hot money) هجمت على بلدان «نمور آسيا» في التسعينيات، وأسقطت الباوند الإنكليزي في الثمانينيات… «هجمات المضاربين» ليست هجمات سوقية، إنما هجمات سياسية الطابع. سيف «بلومبيرغ» قد يبقى مصلتاً فوق رأس لبنان لعقود. معالجة الأزمة تبدأ بالاعتراف بالخسائر وتوزيعها (الفرصة متاحة لإحالة المصارف المخالفة لنسب الملاءة والسيولة وقدرتها على استقبال الودائع والتسليف، إلى الهيئة المصرفية العليا) ثم تحديد استراتيجية اقتصادية وطنية من ضمنها سعر الصرف.
صندوق النقد «يتابع» في لبنان
نهاية الأسبوع الجاري يصل إلى بيروت وفدٌ من فريق عمل صندوق النقد الدولي المختصّ بمتابعة ملف الاتفاق الأولي مع لبنان، برئاسة ارنستو ريغو. وبحسب المعلومات، فإن جدول الأعمال الرسمي للقاءات التي يطلبها الوفد يأتي في إطار «متابعة» التطورات النقدية والمالية والاقتصادية في لبنان في سياق الاتفاق الأوّلي على مستوى الموظفين الذي وقعه الصندوق مع لبنان. وبالتالي، فإن الوفد سيسأل عن التحضيرات التي أُنجزت أو لم تنجز بشأن الشروط المسبقة التي طلبها الصندوق للمباشرة في الانتقال من الاتفاق على مستوى الموظفين إلى الاتفاق النهائي. لكن ينقل عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنه يتم تنفيذ البرنامج مع الصندوق بمعزل عن اكتمال الاتفاق وتحقيق الشروط المسبقة. فمن الواضح، أن الشروط المسبقة، ولا سيما تلك التي تتعلق بالقوانين التي يفترض أن يقرّها مجلس النواب، متصلة بتوزيع الخسائر، أي إنها مرتبطة مباشرة بتقرير مصير الودائع وأموال المودعين. لذا، فإن السلطة السياسية العاجزة عن تسجيل أي تقدّم على هذه الجبهة، تنفذ من البرنامج ما يسهل عليها، وتؤجّل ما ترى أنه قرار شعبويّ لا يمكن تنفيذه في الوقت الحالي.