الشيخ الخطيب: لالتقاط الفرصة المتاحة للحوار تحت قبة البرلمان قبل فوات الأوان
أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة، في مقر المجلس، والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”. تتحدث هذه الآية المباركة الرابعة والخمسين من سورة الزخرف عن نظرة فرعون لشعبه كنموذج عن تعاطي الانظمة الطاغوتية مع رعاياها باعتباره الشكل الاكثر إمعاناً في التجبّر والتعالي والتصرف السلطوي المطلق واعتبار ذلك حقاً له باعتبار نفسه إلهاً يعطيه السلطة المطلقة على هذا النحو دون قيد او شرط، فالحاكم في نظره السلطة العليا التي تملك القوة والنفوذ التي يستمد منها الحق المطلق في التصرف بلا ضوابط سوى أمر واحد وهو الاحتفاظ بالقوة للسيطرة المطلقة دون أن يكون لها وظيفة أخرى أو هدف آخر، أما الناس فليسوا الا عبيداً مملوكين مسخّرين للعمل خدمةً للحاكم أو الحكم أو النظام وبقائه، فهم ليسوا سوى أدوات بهيمية حالها حال الدواب المسخرة يعدمون بالترويض المهين القدرة على التفكير وإبداء الرأي فضلاً عن الاعتراض أو المطالبة بحق والاسوأ من هذا هو ان هؤلاء مقتنعون بذلك وما يمليه عليهم الطاغوت . “يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ “.
اضاف: وللتدليل على صحة منطقه: “وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”، اذاً، فلم يكونوا الا ببغاوات يرددون ما يقوله فرعون وهو قوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) إذ عطلوا عقولهم فاستخفهم فرعون واستهان به برضىً منهم، وإنما أطاعوا قوله في مواجهة موسى فاستجابوا لما دعاهم إليه عدوّ الله من تصديقه وتكذيب موسى، لأنهم كانوا قوماً خارجين عن طاعة الله بخذلانه سبحانه وتعالى إياهم وطبعه على قلوبهم ولذلك وصفهم بالفاسقين: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، إذ رفضوا دعوة موسى ودلائله التي قدّمها ليدحض ادّعاء فرعون فقبلوا من فرعون منطقه القائم على القوة واستخدم لذلك أمثلة:
الاول: (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
الثاني: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).
الثالث: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)
وفي الأمثلة الثلاثة يقرر لهم الجواب بصيغة السؤال، فهو لا يسألهم للاستفهام والاستعلام وينتظر منهم الرأي، فالمطلوب هو أن يسيروا معه وفق ما يقرره من رأي مستنداً الى القوة المادية التي يملكها وانه يملك وفق رأيه القرار، وطبقاً لهذه القاعدة فعليهم الخضوع والطاعة ، وموسى رجل لا حول له ولا قوة ولا يملك المال ولا الرجال ليستحق أن يُطاع.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) فأطاعوه وساروا معه في مواجهة موسى (ع) خاضعين، ولهذا ذمّهم الله سبحانه تعالى وأكّد خروجهم عن الصراط السوي والوظيفة التي يجب اداؤها وهو التصرف وفق الكرامة الإلهية التي أودعها الله اياه ولم يملكه التخلي عنها، والمسؤولية التي حُمِّلها والامانة التي حملها الانسان وأبت السَّمَاوَاتِ والارض والجبال حملها.
قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)”.
وتابع: “إنّ القاعدة التي قررها فرعون واستند إليها في استحقاق الطاعة والخروج له لا تستند إلى منطق الحق، فالقوة يجب أن تخضع لمنطق الحق، والمسؤولية هي استخدامها لإحقاق الحق، والحق ليس أمراً نسبياً يتغير وفقا لتغير موازينها، فصاحبها محقّ طالما بقي مالكاً لها حتى اذا افتقدها افتقد الحق، فهذا منطق غرائزي حيواني وهو تعبير عن منطق شريعة الغاب اللامنطقي الذي يقف خلف الصراعات قديمها وحديثها التي تتجاذب الامم والشعوب وتمتحن بذلك بين منطقين المنطق الغرائزي اللامنطقي وهو جعل القوة معياراً للحق ومنطق المنطق وهو أن الحق أمرٌ ثابت غير متحول طبقاً لتحول موازين القوى الذي لا يسقط ولا يتغير بالتخلّف عن نصرته، وإنما الذي يسقط المتخلفون عن التزامه.
اما الحق الذي هو عبارة عن القيم المعنوية والاخلاقية التي هي الميزان في الحكم على السلوك الانساني فمنتصرةٌ دائما ًلأن القيم المعنوية والاخلاقية لا تسقط ولا تنتهي ويبقى الباطل باطلاً والحق حقاً والعدل عدلاً والظلم ظلماً والاحسان إحساناً والرحمة رحمةً التي لا وجود لها في المنطق المادي والقيم المادية مهما كانت نتائج الصراع، على ان الباطل والظلم لا يُكتب له الدوام والصراع بين الحق والباطل جولات مستمرة تُختبر بها البشرية أفراداً على المستوى الفردي وجماعات على المستوى العام”.
واكد “ان هذا هي القاعدة التي تحكم الصراعات وستحكمها بالامس واليوم وفي القادم من الايام، وبين هذا الصراع وذاك تقوم صراعات بين قوى الباطل ذاتها على امتلاك القوة فتضعف هذه وتذوي أو تنتهي وتقوم مقامها قوى أخرى تعتمد موازين لا انسانية وإن رفعت حقوق الانسان شعاراً لها وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، فهي شعارات فارغة وبلا مضمون لأنها تعتمد إما التمايز العنصري وتفوّق اللون الابيض او القومي او الجغرافي وغيرها، كما اترفنا بها الفكر الغربي ونظرياته التي لم تكن سوى رؤى عنصرية محكومة بهاجس البحث عن القوة او وسيلة من وسائل نشر الصراعات بين الامم لاضعافها بهدف حسم الصراع لصالح الغرب الذي يقود الصراع الدولي. أما الحق فله وجهة واحدة لا تتعدد، هدفها تحقيق العدل والكرامة الانسانية ومواجهة الظلم والاستضعاف وتحقيق الاستقرار والتنمية”.
واكد “انّ هذا الجدل التاريخي بين الحق والباطل ليس مقتصراً على القوى التي تعاند الحق، وإنما تشمل حتى الامم التي قامت على اساس الحق والقيم ثم تحولت الى مساند للطاغوت، فالأمة التي ساندت موسى عليه السلام فانتصرت بقوة الحق والقيم على فرعون وملئه سرعان ما اُبتليت في صراع داخلي وعادت لتواجه موسى (ع) وتخلت عن القيم التي واجهت وانتصرت بها على الفرعون، وهكذا فعلت أمة عيسى التي ارتدت عليه لتقتله فأنجاه الله ورفعه إلى السماء، وكذلك امة محمد (ص) الذي أنقذها من الجهالة واخرجها من الظلمات إلى النور، (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) ، فإذا بها تنقلب على عقبيها وتدخل في الامتحان الصعب طلباً للسلطة والنفوذ القبلي وتحتكم للقيم المادية التي كفرت بها ، فتقتل أبناء رسول الله وابن بنت نبيها الامام الحسين (ع) الذي لقّبه جده رسول الله (ص) مع أخيه بسيدي شباب أهل الجنة الذي أحيينا بالأمس مناسبة ذكراه الاربعين، الذي خرج من أجل إصلاحها والارتقاء بوعيها وتخليصها من التضليل الاموي الذي اوقعها في صراعات قبلية داخلية، وشغلها عن القيام بالمهمة التي كانت من اجلها إلى أن تكون أمةً مستعبدةً له تعمل في خدمة سلطانه ولم يكن تشبيهه بموسى (ع) في خروجه من المدينة خائفاً يترقب من لا شيء، فلزم الطريق الأعظم، فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وهو ماحكاه السيد جعفر الحلي (رض) شعراً بقوله:
خرج الحسين من المدينة خائفاً كخروج موسى خائفا يتكتم
لقد كان التأكيد من أئمة أهل البيت (ع) على إحياء مصيبة الحسين واهل بيته (ع) والحثّ على زيارته تأكيداً على الارتباط بهم والتزاماً بمودتهم التي أمر الله تعالى بها الذي لم يكن أمراً اعتباطياً ولم يكن للتذكير بمظلوميتهم فقط، وإنما على التمسك بقيم الحق التي استحقت أن يستشهدوا لأجلها وأن تحيا بإحياء ذكرى مصائبهم التي هي نفس القيم التي كانت الرسالة من أجلها وهي نفس القيم التي بُعث الأنبياء لتخليدها في مواجهة الطاغوت وقيمه الطاغوتية الباطلة”.
واشار الخطيب الى “انّ مسيرة الأربعين التي اعتاد المسلمون الملتزمون بخط أئمة أهل البيت القيام بها ليست حركة مذهبية في الإسلام تهدف للتمايز عن سائر أبناء الأمة او في مقابل المذاهب الاخرى، وإنما من أجل الأمة واهدافها وتعزيز حركتها نحو الاصلاح في مواجهة الطاغوت الذي يريد حرف مسيرتها عن أهدافها الرسالية واستعبادها سواء كان طاغوتاً داخلياً او خارجياً ولتستعيد حضورها الدولي وتأثيرها في نشر قيمها التي هي حاجة عالمية اليوم لإخراج العالم من الظلمات إلى النور، من الانحدار الاخلاقي المتسارع وانقاذه من الافساد واللعب بالهوية الانسانية التي بدأت بعض أصوات الشذاذ في مجتمعنا تجهر بالدعوة اليه مسنودة بقوى الشر الدولية مسخّرة لها المال وما يتبع لها من قنوات اعلامية تُروج لها متبعة ًاسلوب الهجوم الإعلامي على من يرفع صوته مدافعاً عن القيم والاخلاق ومواجهاً لأساليب الترويج الخبيث عبر السماح بتمرير الافلام والدعاية التي تنشر هذه الرذيلة والتأثير على الناشئة من ابنائنا وبناتنا”.
وتابع: “لذلك إنّ كل تسويق للثورة الحسينية على أنها حركة مذهبية هو أسلوب خبيث تقف وراءه مصالح بعض الانظمة التي ترى في وعي الأمة خطراً عليها تتقاطع مع مصالح قوى دولية تعبث بمصيرها لإضعافها إبقاءً للسيطرة عليها نهباً لثرواتها، وهو مخطط دولي جديد تستعيض به عن النهج القديم في السيطرة على الأمم بعدما استنفذ اغراضه واستطاعت قوى النهوض الجديدة في الأمة من تلمّس الطريق لمواجهته وحققت خطوات مهمة في طريق النجاح، فابتدعت قوى الشر الدولي هذا الأسلوب الخبيث كاستراتيجية سريعة التنفيذ تحتاج مواجهتها إلى الكثير من الجهد وربما بحسب ظنّ أصحاب هذه الاستراتيجية أن هناك استحالة في مواجهتها لان قوى التخريب ستكون داخلية، فالفساد سريع الانتشار أضف إلى ذلك الضغوط الاقتصادية والسياسية والاغراءات المادية”.
اضاف: “نعم إنه سلاح الدمار الشامل الجديد بديلاً عن سلاح الدمار الشامل المتعارف الذي منع من استعماله توازن القوى وامتلاكه من القوى الدولية المتصارعة، أما سلاح الفساد الأخلاقي فهو سلاح تتفرّد به قوى الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.“
وختم الخطيب: “إنّ الشعب اللبناني الذي ينتمي بجميع طوائفه ومذاهبه إلى القيم الايمانية مدعو إلى التوحد وعدم الانشغال بالصراعات المذهبية والطائفية المفتعلة لمصالح فئوية وزعامات حزبية، مدعوة إلى مواجهة الخطر الحقيقي الذي يتهددها والانخراط معاً في هذا المشروع الوجودي والخروج بأسرع وقت ممكن من الانقسامات الراهنة التي كادت ان تطيح بما تبقى وتلتقي على كلمة سواء وتلتقط الفرصة المتاحة للحوار تحت قبة البرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية قبل فوات الأوان . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون”. “وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون”.