الأخبار: عملية الأربعين: الردع بالتراكم!
كتب علي حيدر في الأخبار:
يمكن لأي جهة أن تفترض سقفاً محدداً لقياس نتائج أي عملية، وتقويمها وفقاً لذلك. لكن التحدي يكمن في تحديد المعيار الواقعي في هذا القياس. لذلك، قبل محاكمة النتائج وقياسها، ينبغي محاكمة صحة المعيار.بحكم العلاقة بين رد حزب الله وطبيعته وحجمه ومكانه وأدواته، وبين العدوان على الضاحية واغتيال القائد العسكري في الحزب فؤاد شكر، ينبغي تحديد أهداف العدو ومخاطرها على المعادلات والقواعد الحاكمة على جبهة الإسناد. وفي المقابل، ما هي أهداف رد حزب الله وضوابطه في هذا السياق، وما هي تداعياته وفي أي اتجاه؟
على خلاف ما يفترضه بعض المحللين إزاء حجم الضغط الذي تمارسه جبهة الإسناد في لبنان، يتعامل العدو معها بمنطق مختلف. فهو يرى فيها تهديداً وعامل ضغط من الصعب التكيّف مع استمراره. لذلك، اعتمد العدو منذ البداية إستراتيجية «الردع الفعّال»، عبر توجيه ضربات مؤلمة إلى كوادر الحزب وفقاً لمسار تصاعدي يهدف إلى فك ارتباط جبهة لبنان عن جبهة غزة. في المقابل، نجح حزب الله في الحفاظ على وتيرة متصاعدة من استهداف نقاط جيش العدو ومستوطناته في خط المواجهة، وفرض حالة من اللا-استقرار الأمني وتهجير عشرات الآلاف. واتسع نطاق المواجهة وفقاً لإستراتيجية مدروسة تبادل فيها الطرفان الضربات ضمن سقوف متحركة، ولكنها بقيت تحت سقف الحرب الكبرى والشاملة.
في الأسابيع والأشهر الأخيرة، صعّد العدو اعتداءاته بعدما يئس من إمكانية فرض فك الارتباط مع جبهة غزة، وتدرّج هذا المسار إلى شن عدوان في الضاحية الجنوبية أدى إلى استشهاد القائد شكر وعدد من المدنيين. وشكّل ذلك سقفاً جديداً في الاعتداءات، وارتقاء بالمواجهة العسكرية إلى مرحلة جديدة، وهو قرار يتصل بعناوين عدة في سياقه وأهدافه.
في الإطار العام، تشكّل عملية الضاحية جزءاً من المعركة الدائرة، ومن المعلوم أن شكر كان على قائمة المستهدفين منذ عقود. لكن في ما يتصل بالمتغيرات التي جعلته أكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، يأتي استهدافه ترجمة لقرار تصعيد العدوان، وفي الضاحية الجنوبية، وبأسلوب صاخب (ليس عملية أمنية) كجزء من الضغط على حزب الله لوضعه بين خيارين: فك جبهة لبنان عن جبهة غزة، أو استمرار تلقي الضربات والاغتيالات في العمق اللبناني ضد قياداته الجهادية وعبر سلاح الجو (الطيران الحربي وليس فقط المسيرات).
من الواضح أن هذا الخيار – السيناريو الأخطر يفتح المواجهة على سيناريوهات دراماتيكية ترفع مستوى الضغوط الميدانية على حزب الله وبيئته. ثم إن هذا الخيار يؤسِّس لمعادلات وقواعد جديدة يُراد لها أن تمتد إلى مرحلة ما بعد الحرب. ويندرج هذا الخيار ضمن مساعي العدو إلى إعادة صياغة مفاهيم جديدة لحماية أمنه القومي (في بعده العسكري) وهو ما أصبح أمراً ملحاً بعد طوفان الأقصى.
في المقابل، فرضت خطة العدو ورهاناته أن يكون رد حزب الله مدروساً وهادفاً، إذ يبدأ من إحباط أهداف العدوان، وهو ما أعلنه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، بعدم التراجع عن إسناد غزة ودعمها مهما كانت التضحيات. كما السعي إلى فرض معادلة رد تؤسس لردع، أي الردع بالتراكم، بما يُعيد العدو بشكل مرحلي على الأقل، ولو لاحقاً، إلى قواعد ما قبل عدوان الضاحية. وهو شرط أساسي للمحافظة على جبهة لبنان لإسناد غزة، مع أقل كلفة ممكنة. ولكي يتحقق هذا المطلب، ينبغي ألّا يؤدي الرد إلى حرب كبرى تذهب بالمنطقة إلى اتجاهات أخرى تتهاوى فيها كل الخطوط الحمراء المتبادلة… علماً أنه منذ بدء المتغيرات التي فرضتها عملية طوفان الأقصى والحرب التي تلتها لا يوجد ردع عبر ضربة واحدة.
مع ذلك، كان إصرار حزب الله على أن يكون الهدف في منطقة تل أبيب. والهدف منه أن يدرك صنّاع القرار السياسي والأمني، بأن مواصلة العدو استباحة الضاحية سيؤدي إلى استمرار استهداف تل أبيب، مهما كانت التداعيات. وبذلك يكون قد بدّد أي تقديرات ورهانات على أن حزب الله سيحصر ردوده ضمن منطقة الشمال في مقابل تجاوز العدو كل الخطوط الحمراء. ولذلك، الأهم أن تدرك المؤسستان السياسية والأمنية للعدو بأن ردود حزب الله في هذا المجال ستكون تصاعدية إن لم يكفِ هذا الرد في ردع العدو.
لماذا لم يرد العدو بعد تنفيذ العملية؟
تحدّث العدو عن عملية استباقية. ولكن الذي حصل، أن عملية المقاومة تمت في وقت لاحق على ما ادّعاه العدو من عملية أحبطت الهجوم. ومع ذلك، امتنع العدو عن الرد على العملية، رغم أنه أقرّ بفشل خطة الإحباط، ونجح حزب الله في استهداف تل أبيب الكبرى. لكن امتناع العدو عن الرد المضاد، لم يكن أمراً مسلّماً به. بل إن الهدف الذي سعى إلى تحقيقه من عدوان الضاحية، والتهديدات التي سبقت ذلك، تستوجب منه هذا الرد، على الأقل لإفهام حزب الله أنه عازم على فرض معادلته بإبقاء الضاحية تحت سيف التلويح والمبادرة. لكنّ العدو أدرك أن أي خطوة في هذا الاتجاه كان سيتم الرد عليها بما يتناسب معها. وفي هذه الحالة، كان هناك احتمال كبير بأن يؤدي ذلك التبادل إلى ضربات قاسية تتدحرج نحو مواجهة كبرى، لا يريدها الطرفان، علماً أنّ المواجهة سوف تنتهي إلى العودة مجدداً إلى معادلة ما قبل عدوان الضاحية. مع الإشارة إلى أنه في حال كان لدى العدو تقديرات ورهانات أخرى، فإن الأوضاع ستأخذ المنطقة إلى اتجاهات أخرى، وفي هذه الحالة، لا يستطيع العدو المبادرة من دون تشاور وتشارك مع الأميركي.
في ما يتعلق بالمستقبل المباشر، بعيداً عن الدخول في تقدير الخيارات والسيناريوهات المحتملة، يُفترض أن العدو فهم من إصرار حزب الله على الرد بالمضامين والرسائل التي شهدها، أن مواصلة عدوانه في الضاحية الجنوبية سيُواجه بردود تصاعدية في منطقة تل أبيب… وكلما اتضح أنّ أيّ رد لم يكن كافياً لكبح جموح العدو سيدفع حزب الله للرد بسقف أعلى مما سبق.
وهكذا فإن معادلة الرد التي نفذها حزب الله، والرسائل والمفاعيل التي حضرت لدى مؤسسة القرار الأمني والسياسي، تشكل خطوة مهمة جداً على طريق تعزيز جبهة إسناد ودعم غزة، مع أقل كلفة ممكنة حتى الآن في لبنان. كذلك، إنّ لمجمل جبهة الإسناد ابتداء ورداً بمستويات مختلفة دوراً رئيسياً في تكريس معادلات تمنحه هامشاً أوسع من العدوان (يسميه الحرية العملياتية للجيش) كجزء من مساعي ترميم مرتكزات الأمن القومي التي تهشّمت وتطويرها، مع ما قد يترتب على ذلك من نتائج وتداعيات لمصلحة لبنان والمقاومة والمنطقة.