الأخبار: تغريبة أهل الضاحية في الليلة الموحشة..
كتبت زينب حمود في الأخبار:
إلى ما قبل السادسة من مساء الجمعة، كان كثر لا يزالون صامدين في الضاحية، وكانت حركتها «طبيعية» إلى حد ما. غادرها كثيرون، فكانت تقفر ليلاً وتعود إليها الروح نهاراً، وهي التي لا يُعرف ليلها من نهارها. كان ذلك قبل الانفجار – الزلزال الذي هزّ كيان الضاحية ولبنان، وآذن ببدء مرحلة جديدة. كثر من أبناء المنطقة ممن خبروا وحشية العدو في 2006 أدركوا أن ما بعد تلك الساعة المشؤومة لم يعد كما كان قبلها.
غادر كثر على عجل بعدما كانوا، في الأيام والأسابيع السابقة، قد «رتّبوا» أوضاعهم استعداداً للأسوأ. ورغم ذلك، بقيت شريحة كبيرة لأن لا وجهة لها تذهب إليها، أو لأنها كانت مقتنعة بأن الضربات على الضاحية لا تزال محصورة ضمن هامش الاستهدافات المركزة، أو هذا ما أرادوا تصديقه في ذلك الوقت.
كانت ليلة موحشة أثقلت على صدورهم وأرواحهم، قبل أن يخرج الناطق باسم جيش العدوّ مسمّياً مباني في منطقتَي الليلكي والحدث، وداعياً من يسكنون حولها إلى مغادرتها. أدركوا أن هذه لم تكن «خبرية واتساب» بل إنذاراً جدياً. فجأة «دبّت الحياة» مجدداً في أوصال الضاحية. بدا كأن مسّاً من الجنون قد أصاب الناس الذين خرجوا في تغريبة جديدة صارخين للنجاة بحياتهم وحياة أولادهم. خرجوا، بعضهم يحملون حقائب صغيرة. منهم من قادوا سياراتهم بلا وجهة، ومنهم من قطعوا مسافات طويلة سيراً وركضاً يسابقون الوقت. تقول سارة: «مشيت وعائلتي في الظلام الدامس من عين السكة إلى طريق المطار وانتظرنا في الشارع مرور سيارة توصلنا إلى منزل خالتي في رأس النبع». على أوتوستراد المطار الجديد، كان المشهد «غزّاوياً»: صفّ طويل من آلاف العائلات تجدّ السير طلباً للأمان على طول الطريق من مفرق برج البراجنة إلى الوسط التجاري.
كانت مراكز الإيواء في بيروت والجوار تغصّ بالنازحين، وخطة الطوارئ تئنّ تحت ضغط نازحي الجنوب وغير قادرة على استقبال المزيد من هذا الطوفان البشري، لذلك افترشت أسر بأطفالها وعجائزها الطرقات والكورنيش البحري والساحات الواسعة في وسط بيروت والبيال، ومنهم من قضوا الليل الموحش في سياراتهم.
بعد تنفيذ العدو تهديداته في الحدث والليلكي، تدحرجت كرة النار بسرعة، وتوالت الضربات على الضاحية لتشمل مناطق ظنّها أهلها آمنة مثل برج البراجنة. عندها، أجبر الصامدون حتى الرمق الأخير على مواجهة «الطوفان الكبير». لكن كيف؟ بمشاهد دراماتيكية، مشوا فوق الركام، وبين الدخان، النيران من أمامهم، ومنازلهم خلفهم. ظلّت زهراء ترفض مغادرة منزلها في برج البراجنة حتى «جاءت هذه الليلة المرعبة والتي نجونا منها بأعجوبة، فبعد أقل من ربع ساعة على خروجنا، سوّيَ البناء الذي أسكنه أرضاً». وفي تلك الليلة، خرجت محجّبات بلا أغطية رؤوس، وأولاد حفاة، وعائلات تصرخ، وتكبّر، وتردّد شهادة الموت.