من السويداء إلى الأردن خرائط أمنية ترسمها تل أبيب بصمت!

كتب جو رحال في نداء الوطن:
من محافظة السويداء إلى معبر نصيب الحدودي، تتحرك إسرائيل بهدوء وفاعلية لرسم خريطة أمنية جديدة جنوب سوريا، مستفيدة من حالة الفراغ الإقليمي، وتراجع حضور الدولة المركزية، وتبدّل موازين القوى الدولية. الغارات الإسرائيلية التي تصاعدت منتصف تموز 2025 لم تكن مجرد ردّ فعل على تهديدات أمنية، بل حملت في طياتها مشروعًا استراتيجيًا متكاملًا: إنشاء منطقة “حزام أمني” تمتد من الجولان إلى الحدود الأردنية، تخلو من الجيش السوري والقوى الحليفة لإيران، وتُدار محليًا عبر مجموعات درزية.
الذريعة المعلنة هي “حماية الطائفة الدرزية”، لكن الوقائع الميدانية تكشف عن أهداف تتجاوز البُعد الطائفي بكثير. فتل أبيب، التي كانت تراقب عن بُعد، قررت الآن التدخل بهندسة أمنية جديدة، تمنحها عمقًا استراتيجيًا، وتُضعف خيارات خصومها، من دمشق إلى طهران.
“ما تسعى إليه إسرائيل ليس فقط حماية أقلية، بل إعادة رسم معادلة السيطرة جنوب سوريا دون إطلاق رصاصة واحدة من الأرض”.
ما يجري في السويداء يعيد إلى الأذهان تجربة “الشريط الحدودي” الذي أنشأته إسرائيل في جنوب لبنان خلال الثمانينات، لكن بأسلوب مختلف. لا جنود إسرائيليين على الأرض، بل تغطية جوية دقيقة، وانسحاب سوري صامت، وسلطة محلية مسلّحة، تشكّل عمليًا إدارة ذاتية غير مُعلنة، يجري التنسيق معها بصيغ غير رسمية.
اللافت أن النظام السوري انسحب من السويداء دون قتال، وتركها تُدار من قبل مجلس عسكري محلي. هذا الانسحاب ترافق مع صمت روسي، وغياب تام لأي ردّ فعل إيراني، في مشهد يعكس تراجع قدرة النظام على فرض سلطته جنوب العاصمة، واستعداد موسكو لغضّ الطرف، ضمن تفاهمات إقليمية غير مكتملة.
الأهداف الإسرائيلية أبعد من الجنوب
المشروع الإسرائيلي يحقق أربعة أهداف رئيسية:
1. عزل النفوذ الإيراني عن خطوط التماس الجنوبية، ومنع التموضع العسكري قرب الجولان، وهو أمر تعتبره تل أبيب خطًا أحمر استراتيجيًا.
2. تأمين الجبهة الشمالية الشرقية للأردن، ومكافحة التهريب، لا سيما في ظل تنامي تجارة الكبتاغون والأسلحة في السنوات الأخيرة.
3. التحكم بمعبر نصيب، وبالتالي التأثير في شريان اقتصادي يربط دمشق بعمان ودول الخليج.
4. فرض وقائع ميدانية تُستثمر في أي تسوية مستقبلية حول سوريا، بحيث تمتلك إسرائيل أوراق ضغط داخلية، لا فقط على حدودها.
الأردن، بدوره، يراقب هذا التحول بحذر. فالمسار الجديد الذي ترسمه إسرائيل جنوب سوريا قد يشكّل له فائدة أمنية، لكنّه في الوقت ذاته يضعه أمام استحقاقات جديدة. ووفق تسريبات دبلوماسية، فإن تنسيقًا أمنيًا غير معلن يجري بين الجانبين في ملفات الحدود، وخصوصًا ضبط حركة التهريب. لكن عمّان، لأسباب سياسية داخلية وإقليمية، تلتزم الصمت العلني، مع الاحتفاظ بهامش مناورة دبلوماسي.
اللافت في هذا المشهد هو غياب أي تدخل روسي أو إيراني أو أممي. موسكو، المنشغلة بالملف الأوكراني وبإعادة ترتيب علاقاتها مع أنقرة وطهران، لم تعلّق رسميًا على ما جرى في السويداء، رغم أن الاتفاق الروسي ـ الإسرائيلي في 2018 كان ينص على منع وجود أجنبي جنوب سوريا.
أما إيران، فبدا أنها تتجنب المواجهة حاليًا، ربما كجزء من احتواء التصعيد بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة على منشآتها النووية. ووسط هذا الصمت، اكتفى المبعوث الأممي إلى سوريا بالتحذير من “التغييرات أحادية الجانب”، دون تسمية الفاعل.
من حماية إلى سيطرة ناعمة
المعادلة الجديدة التي ترسمها إسرائيل تقوم على فرض “منطقة أمنية بلا جنود”، خالية من أي وجود سوري أو إيراني، وتُدار محليًا، في إطار يشبه الحكم الذاتي غير الرسمي. هكذا، تضع تل أبيب يدها على الجبهة الجنوبية لسوريا، دون التورط في احتلال أو إدارة مباشرة، مستفيدة من هشاشة الوضع الداخلي السوري، ومن تآكل الإجماع الدولي على وحدة الأراضي السورية.
واقع يُرسَم بصمت
ما يحصل اليوم في الجنوب السوري ليس تطورًا ميدانيًا عابرًا. إنه مشروع استراتيجي تُنفذه إسرائيل على مراحل، تحت غطاء “الحماية”، وبأدوات غير تقليدية. فهل نحن أمام ولادة كيان أمني جديد جنوب سوريا، يُرسم من الجو وتُدار حدوده من بعيد؟
أم أن هذا الواقع الموَقّت سيفجّر توازنات هشّة، ويفتح الباب على صدامات لا تزال تحت الرماد؟