لبنان

ركان ناصر الدين: ضبط فوضى الدواء أولوية

كتبت رجانا حمية في الأخبار: 

في بلدٍ تهدّد أزماته المتلاحقة أبسط مقومات العيش، تكاد الصحّة تتحوّل إلى امتياز لا حقّ. الانهيار المالي لم يكتفِ بإفراغ المستشفيات والصيدليات من الأدوية والمستلزمات، بل أطاح بما تبقّى من ثقة بالقطاع الصحي، واضعاً المرضى تحت رحمة السوق السوداء، والدواء المهرّب، والمزوّر، والخدمات العشوائية.

ويُختصر التحدي اليوم لا بإدارة وزارة، بل بخوض مواجهة مباشرة مع منظومة فسادٍ صحّي متجذّر، كانت الأزمة المالية مجرّد كاشفٍ لها، لا سبباً وحيداً في انفجارها.

ولأن الحكومة الحالية بعمرها القصير لا تملك ترف الوقت لـ«توسيع البيكار»، حدّد وزير الصحة ركان ناصر الدين مسارين متوازيين كأولويات عملية فرضتها الظروف الطارئة والولاية القصيرة: استعادة الحد الأدنى من الرقابة والمحاسبة، وتأمين أقصى ما يمكن من الخدمات الصحية للناس في ظلّ الموارد الشحيحة.

عملياً، يقول ناصر الدين لـ«الأخبار» إنه بدأ أولى خطواته بإعادة تفعيل وتشكيل اللجان التي تتولى تنظيم مجموعة من «القطاعات» المرتبطة بالدواء والمستلزمات والخدمات الطبية، وتفعيل عمل المفتشين والمراقبين الصحيين، وباشر سلسلة من الإحالات القضائية والإدارية التي طالت ملفات تتعلق بالأدوية المزوّرة والمهرّبة، ومراكز التجميل غير المرخّصة، والمتممات الغذائية المخالفة، وسواها من القضايا التي تهدّد السلامة العامة.

في سياق جهود «تنظيف» القطاعات وتنظيمها، يبرز قطاع المتممات الغذائية كواحد من أكثر الملفات تعقيدًا وفوضى. إذ تحوّل إلى مساحة مفتوحة على شتى أنواع المخالفات، سواء عبر شركات ومصانع لا تلتزم بالشروط القانونية ومعايير التصنيع، أو عبر دخول متطفّلين غير مؤهّلين باتوا يتولّون الإنتاج والتسويق والاستيراد، في غياب الحد الأدنى من الرقابة والتنظيم.

هذه الفوضى امتدّت إلى داخل وزارة الصحّة نفسها، حيث تعطّل عمل اللجنة المختصة بدراسة ملفات المتممات الغذائية لخمس سنوات متتالية. خلال هذه المدة، كانت الملفات تمرّ من خارج الأطر المؤسسية، عبر «الخط العسكري» الذي تفتحه التواقيع الاستثنائية من مكتب الوزير، ما أفرغ الإجراءات الرقابية من معناها.

ويقول ناصر الدين إنه مع تسلّمه مهماته، وجد نفسه أمام مئات الملفات المتراكمة التي تتطلّب التوقيع. ومن منطلق الإقرار بـ«ضآلة خبرتي التقنية في هذا المجال»، كانت أولى الخطوات إعادة تفعيل اللجنة المختصة بدراسة ملفات المتممات الغذائية، وهي «لجنة علمية مؤلفة من خبراء تتولى دراسة ملفات الشركات والمصانع، وتحديد مدى استيفائها للشروط والمعايير. وبناءً على توصياتها، يتم التوقيع أو الرفض، مع الإلغاء الكامل لأي استثناء».

وتزامن ذلك مع إثارة ملف شركة «Pharma M» التي تنتج مجموعة من المتممات الغذائية، بعضها موجّه للأطفال الرضّع والحوامل.

التقارير التي سُلّط الضوء عليها أشارت إلى مخالفات خطيرة، دفعت عدداً من أصحاب المستودعات إلى تعليق تسليم منتجات الشركة إلى الصيدليات، في انتظار موقف الوزارة التي «قررت اعتبار ما نشر من تقارير كإخبار، وأرسلنا فريقاً من لجنة المصانع للكشف على المصنع، وأخذنا عينات منه ومن الصيدليات التي تباع فيها منتجاته، وأرسلناها إلى ثلاثة مختبرات محلية وآخر خارجي».

ويتوقع أن تصدر النتائج اليوم أو غداً كحدّ أقصى، على أن يُعلن عنها في مؤتمر صحافي يعقده الوزير في مبنى الوزارة الجمعة. وسيُبنى الموقف الرسمي على ما تُظهره التحاليل: «إما ننصف المصنع، أو نتخذ بحقه الإجراءات المناسبة في حال ثبوت المخالفات»، مشيراً إلى أن هذا النموذج من التعاطي الرقابي «سيُطبّق على شركات ومصانع أخرى أيضاً».

وفي سياق تعزيز آليات الرقابة والمحاسبة، يؤكد ناصر الدين أنه تابع عن كثب ملف الأدوية التي أُدخلت إلى السوق اللبنانية خلال مدة الانقطاع، تحت عنوان «التسجيل المبدئي»، وهو إجراء اعتُمد استثنائياً لتأمين الدواء خلال الأزمة، أتاح إدخال بعض الأدوية وتسجيلها مؤقتاً على أن تُستكمل ملفاتها لاحقاً، بما في ذلك الفحوص المخبرية والشروط الفنية المطلوبة.

غير أن هذا المسار الاستثنائي استُغلّ من قبل بعض الشركات والمستوردين الذين اكتفوا بالتسجيل، من دون استكمال الملفات، ما دفع الوزارة إلى إصدار قرار تصحيحي مطلع العام الماضي (الرقم 1573/1)، منح المعنيين مهلة إنذار مدّتها عام كامل لاستكمال المستندات المطلوبة، تحت طائلة شطب الدواء من السوق في حال المخالفة. ومع انقضاء ستة أشهر على انتهاء المهلة، شكّل ناصر الدين لجنة لمتابعة هذه الملفات.

وأظهرت نتائج التدقيق أن عدداً كبيراً من الأدوية المسجّلة لم يعد يدخل إلى السوق اللبنانية، نتيجة عودة الأدوية الأساسية التي كانت مفقودة.

كما تبيّن أن عدداً من الشركات والمستوردين لم يُكملوا ملفاتهم أساساً، فكان القرار بشطبها نهائياً، أما الملفات التي ينتظر أصحابها فقط الفحوص المخبرية «فلا تزال أدويتهم مسجلة وموجودة في السوق بانتظار ما ستظهره النتائج».

ملف الأدوية المزوّرة والمهرّبة أحد أكثر الملفات إلحاحاً وخطورة. وفي هذا السياق، تعتزم الوزارة إطلاق «الحملة الوطنية للتوعية على مخاطر الأدوية المهرّبة والمزوّرة»، بهدف تعريف المواطنين بكيفية التمييز بين الدواء الشرعي والدواء غير النظامي، في محاولة للحد من تفشّي هذه الظاهرة التي باتت تهدد سلامة المرضى بشكل مباشر.

ويُعدّ هذا الملف من أعقد التحديات لأن دور الوزارة في هذا السياق تنظيمي و«لا قدرة لنا على القيام بوظائف متشعبة، خصوصاً أن هذا الأمر يتطلب تضافر الجهود بين مختلف الجهات، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية، نظراً إلى تشعّب المعابر الشرعية وغير الشرعية، وهو ما يحتاج إلى ضبط صارم».

وحتى الآن، بيّنت التحقيقات في هذا الملف ضلوع عدد من الصيدليات وأصحاب المستودعات، وأشخاص عاديين، في شبكات التهريب والتزوير، «وقد تمّ تحويل عدد كبير منهم إلى القضاء»، يقول ناصر الدين، مشيراً إلى منظومة غير شرعية نشأت على أنقاض السوق النظامي، وباتت تهيمن على جزء كبير من تداول الدواء.

ويستعيد الوزير السردية التي مهّدت لهذا الانهيار، بدءاً من آلية الدعم التي أُقرّت خلال الأزمة، وأسهمت – عن قصد أو من دونه – في انقطاع الأدوية الأساسية من السوق الرسمي وتهريبها إلى الخارج، لتُشلّ قدرة الدولة على تأمين حاجات المواطنين من الأدوية.

وهو ما دفع الناس إلى البحث عن بدائل، ولو من خارج الأطر القانونية، عبر الاستيراد الشخصي أو شراء الأدوية من مصادر غير موثوقة، ما مهّد الطريق أمام تفشّي الدواء المهرّب والمزوّر.

وعن دور وزارة الصحّة في التصدي لظاهرة الأدوية المزوّرة والمهرّبة، فيتمثل أحد المسارات الأساسية في «توسيع التغطية الدوائية»، وهي السياسة التي يقول ناصر الدين إنه اتبعها منذ تسلّمه مهماته.

وأوضح أن هذه التوسعة شملت تعديل بروتوكولات علاج الأمراض السرطانية والمستعصية، من التصلّب اللويحي إلى الأمراض العصبية وغيرها، عبر مرحلتين: الأولى لزيادة عدد المرضى المشمولين بالتغطية، والثانية لإدخال مزيد من أصناف الأدوية إلى سلة العلاجات المموّلة.

ويُقدّر الوزير أن التغطية الدوائية اليوم «زادت بنسبة تقارب 400%» مقارنة بالسابق، لافتاً إلى أن الكثير من الملفات التي كانت تُرفض في السابق باتت تُقبل بعد توسيع المعايير.

ويشبّه هذه الخطوة بـ«تعديل علامة النجاح: بدلاً من أن تكون علامة النجاح 15 على 20، خفّضناها لتصبح 10 على 20، ما أتاح قبول مزيد من الملفات».

أما ما بقي خارج هذا الإطار، فهو يعود إلى ملفات تحتوي على علاجات تجريبية أو غير مضمونة النتائج، وبالتالي لا تزال خاضعة للتقييم.

وبالتوازي، أُدخلت أصناف دوائية جديدة إلى لائحة الأدوية المغطّاة. وكشف ناصر الدين عن إطلاق مناقصة قريبة للأدوية ستُضاف إليها نسبة 46% من الأصناف الجديدة، على أن تُتاح هذه الأدوية ليس فقط لمرضى الوزارة، بل أيضاً لمختلف الصناديق الضامنة، بما فيها الأجهزة الأمنية، باستثناء الجيش.

وتستند الوزارة في هذه التوسعة إلى وفورات حققتها آلية الشراء المعتمدة حالياً. فرغم الالتزام الكامل بقانون الشراء العام، يشير الوزير إلى أن ما تغيّر هو طريقة فضّ العروض التي تتم اليوم في جلسة واحدة علنية، ما يسمح بتحقيق منافسة فعلية بين العارضين، «ونجحنا عبر ذلك في كسر الأسعار على نحو فعّال».

تبقى هذه الخطوات محكومة بسقف الممكن والمتاح. فما يجري اليوم في الوزارة لا يتعدى تسيير شؤون القطاع الصحي بما هو متوافر من إمكانات، إذ إن «تأمين تغطية صحية شاملة تشمل الاستشفاء، الأدوية، والرعاية الصحية الأولية لكل اللبنانيين يتطلّب تمويلاً يتجاوز المليار دولار» وهو رقم خيالي لا يمكن تحقيقه حتى في الظروف الطبيعية.

لكن، في المقابل، لا يمكن الاستمرار بما هو قائم اليوم، و«هناك حاجة إلى العودة على الأقل إلى ما كنا عليه إلى ما قبل 2019»، ولذلك، «طلبنا في موازنة 2026 رفع موازنة الوزارة لتكون قادرة على تغطية المرضى بشكلٍ أفضل».

ورغم أن بند الأدوية لم يخضع للتعديل، إذ بقيت موازنته تقدّر بـ120 مليون دولار، إلا أن ناصر الدين يرى ضرورة ملحّة لإعادة النظر في موازنة الاستشفاء تحديداً.

ويُشير إلى أن المبلغ المخصص للاستشفاء في موازنة 2025 هو أقل بـ68 مليون دولار مما كان عليه في 2019، رغم أن الكلفة الفعلية للخدمات الاستشفائية ارتفعت بشكل كبير، بفعل التضخم وتبدّل أسعار المستلزمات الطبية والخدمات.

وترافق هذا التوجه المالي مع قرار بتقييم شامل ستقوم به الوزارة للكلفة الاستشفائية في لبنان، نظراً إلى أن آليات تحديد الأكلاف والأسقف المالية لا تزال «هشّة وغير متماسكة»، ولذلك «سيصار إلى تقييم للأشهر الستة الأولى من العام الجاري لإعادة النظر في الأكلاف والأسقف المالية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى