لبنان

رفع الحدّ الأدنى للأجور في لبنان: “حسنة ماليّة” أم ذرّ للرماد في العيون؟

كتبت الديار:

يشهد لبنان منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية قبل أعوام، والتي صنفها البنك الدولي بأنها من بين أشد الأزمات الاقتصادية عالميا منذ القرن التاسع عشر، انكماشا اقتصاديا حادا، رافقه تدهور غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار، ما أدى إلى تآكل الأجور وضياع مدخرات المواطنين في دهاليز الفساد والمحسوبيات.

في ظل هذا الواقع القاتم، أقر مجلس الوزراء اللبناني مؤخرا رفع الحد الأدنى الرسمي للأجور في القطاع الخاص إلى 28 مليون ليرة شهريا (نحو 312 دولارا)، بدءا من الشهر المقبل، في محاولة لمواكبة المتغيرات الاقتصادية، وتخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين. لكن تبدو هذه الخطوة في ظاهرها كـ “حسنة مالية” متأخرة، لكنها في العمق لا تعدو كونها ذر للرماد في العيون، أو ربما محاولة تجميلية لواقع مأزوم. فهل يعقل أن هذه الزيادة، على محدوديتها، قادرة على إنقاذ معيشة المواطن اللبناني، الذي يرزح تحت خط الفقر، ويكوى يوميا بنار أسعار ملتهبة لا ترحم؟

يُذكر ان الحد الأدنى للأجور يعرّف على أنه أدنى مبلغ من المال يتقاضاه العامل في الساعة، اليوم أو الشهر بحكم القانون، وهو أيضا أدنى مبلغ يجوز فيه للعامل أن يبيع جهده، وقد يتحدد هذا المبلغ لتغطية أجور كل العمال، أو مجموعة منهم يعملون في صناعات معينة.

ويشار إلى أنه وفقا لبيانات منظمة العمل الدولية، يبلغ الحد الأدنى للأجور في بعض الدول المجاورة نحو 520 دولارا شهريا في تركيا، ونحو 310 دولارات في الأردن، وفي مصر نحو 160 دولارا. ورغم أن الأرقام لا تقارن بمعزل عن كلفة المعيشة في كل بلد ، إلا أن الحد الأدنى في لبنان (312 دولارا) لا يتمشى مع التضخم الهائل والأسعارالمسعرة بالدولار.

جنون في الاسعار

وبحسب إدارة الإحصاء المركزي، سجل التغير الشهري في مؤشر أسعار الاستهلاك خلال شهر حزيران ارتفاعا متفاوتا في معظم المحافظات، وقدره 0.76 % بالنسبة لشهر أيار 2025 ، وجاء على النحو الآتي: بيروت: ارتفاع بنسبة 2.25%، الشمال: ارتفاع بنسبة 1.02%، البقاع: ارتفاع بنسبة 2.11%، الجنوب: ارتفاع 1.88 %، النبطية: ارتفاع بنسبة 2.37%، جبل لبنان: انخفاض بنسبة 0.26%. مع العلم أن التغير السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك عن حزيران 2025 بلغ 15% بالنسبة لشهر حزيران من العام 2024.

أما أسباب ارتفاع الأسعار في لبنان، فيرجعها الخبراء إلى عدة عوامل، أبرزها غياب الرقابة الفعالة على الأسواق، الدولرة الشاملة للأسعار، الاحتكار والتسعير العشوائي، ارتفاع الأكلاف التشغيلية المحلية، تآكل الأجور والطلب غير المنتظم، والضرائب والرسوم غير المباشرة.

يشار إلى أن الحكومة فرضت ضريبة على المحروقات بتاريخ 19 أيار 2025 لتغطية النفقات المترتبة عن المنح المالية للعسكريين، وهي على علم مسبق أنها سترتد على كافة احتياجات المواطن. فكلفة النقل تدخل في أسعار كل البضائع، كما تدخل في أجور العمال، وبالتالي تدخل في الأسعار النهائية للسلع والخدمات، والضريبة تقضي بفرض 100 ألف ليرة لبنانية على تنكة البنزين و174 ألف ليرة لبنانية على تنكة المازوت. هذا القرار أدى إلى زيادة سعر البنزين بنسبة 7%، وسعر المازوت بنسبة 14% على المستهلكين، وبالتالي أدى إلى ارتفاع دراماتيكي في الأسعار، إلا أن الحكومة تراجعت عن القرار الشهر الجاري، ولكن الأسعار لم تتراجع وبقيت محلقة.

شهادات

هذه الأرقام تبرز واقعا اقتصاديا لا يرحم، وتطرح تساؤلات جدية حول مدى فعالية هذه “الزيادة” في الحدّ الأدنى للأجور في ظل الانفلات العام للأسعار، وغياب أي رقابة فعلية على الأسواق.

فالمواطنون عبروا عن شكوكهم بجدوى هذه الزيادة. ففي أحد المحال التجارية في منطقة الزلقا، تقول ندى لـ “الديار”، وهي موظفة مبيعات منذ 6 سنوات، ” راتبي بعد الزيادة رح يصير 310 دولار، بس شو بيكفي؟ الإيجار وحده 250، وبعده الكهرباء والإنترنت والأكل، نحن نعيش كل يوم بيومه في لبنان، لتأمين العيش الكريم لازم يكون في أكثر من عاملان يتقاضيان الحد الأدنى في العائلة للعيش بكرامة”.

أما رائد وهو موظف في احد الشركات “حتى لو صار معاشي 28 مليون شو بكفي؟ أجار ما عندي الحمد الله متل غيري من الناس، بس المصروف كبير وكل شي بالدولار، والمعاش ما بيوصل لنصف الشهر ، وأكتر شي بيقهرني إني ما قادر ضب ليرة لأولادي”.

الاسرة من 4 اشخاص تحتاج الى اكثر من 52 مليون ليرة شهرياً

وفي هذا السياق، يرى الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين “أن الأسرة اللبنانية المؤلفة من أربعة أفراد ، باتت تحتاج إلى ما يتخطى 52 مليون ليرة لبنانية شهريا بالحد الأدنى لتأمين العيش الكريم، وذلك وفق حسابات ومعايير معينة، أبرزها اعتبار أن الخدمات التعليمية مؤمنة من القطاع العام، ودون احتساب اشتراك كهرباء ومع احتساب معدل إيجار شقة 150$”.

كاشفا أن “تقديرات الدولية للمعلومات تشير إلى أن “دخل 70% من اللبنانيين لا يكفي لتوفير حاجات الحياة الأساسية، ما يضعهم أمام خيار واحد من ثلاثة لتغطية كلفة المعيشة: بيع ممتلكاتهم، تحويلات خارجية من الأقارب، أو الحصول على مساعدات، عدا ذاك يعني أنهم يضطرون الى العيش بالحد الأدنى الممكن وبحالة عوز شديد”.

يذكر أن البنك الدولي أشار إلى أن الفقر في لبنان تضاعف ثلاث مرات على مدى عقد من الزمن ، انزلقت خلاله البلاد إلى أزمة مالية طويلة الأمد. ووفق بياناته، فان 70% من المواطنين في لبنان يعانون من الفقر.

شكاوى

الزيادة في الأجور تطرح تحديات حقيقية على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، إذ يعتبر العديد من أرباب العمل أن الزيادة غير مدروسة، ولا تراعي واقع السوق ولا الركود، ما قد يدفع بعضهم إلى تسريح موظفين أو حتى إقفال مؤسساتهم.

فراس، وهو صاحب مطعم صغير، يرى أن الزيادة غير واقعية بالنسبة للمؤسسات الصغيرة “أنا مع العامل ان يعيش بكرامة، بس كيف بدي زيد الرواتب إذا أنا بالأصل ما عم بقدر غطي كلفة الغاز والكهرباء؟ يا بقلص عدد الموظفين، يا بسكر”.

وحال فراس يشبه صاحب أحد الفنادق في منطقة برمانا، الذي أكد “أن الموسم الصيفي ليس كما يشاع واعدا، فنسبة الإشغال في الفندق لا تتجاوز الـ 30%” ، وهذا لا يكفي لتغطية أجار العمال ” ، مضيفاً ” الحل بيكون تسكير أو تخفيف عدد العمال و احلاهما مر”.

يشار إلى أن رئيس نقابة أصحاب الفنادق بيار الأشقر أشار في بيان منذ أيام، إلى أن انطلاقة الموسم الصيفي شهدت بعض التحسن، لكن نسبة الإشغال في فنادق بيروت لا تزال تراوح بين 40 و50%، في حين كانت النسب في الفترات العادية تتراوح بين 85 و95%.، أما في المناطق الجبلية فلا تتعدى الـ30 والـ40%”.

لا دراسات علمية

من جهة أخرى، يرى كثير من الخبراء الاقتصاديين أن “قرار رفع الأجور يعكس حجم التآكل في القدرة الشرائية، الناتج عن التضخم والانهيار المالي المتواصل في لبنان منذ سنوات. فرفع الأجور من دون إصلاحات موازية كضبط الأسعار، وتحسين بيئة العمل، ودعم القطاعات الإنتاجية، وتنظيم الضريبة على الدخل، سيؤدي إلى حلقة تضخمية جديدة، ما قد ينعكس سلباً على قيمة الليرة اللبنانية ، ويزيد الضغط على اقتصاد منهك أصلا. في وقت تتصاعد فيه كلفة المعيشة بشكل مستمر، فسرعان ما تلتهم أي زيادة تمنح، وتعيد الفقراء إلى نقطة الصفر”. واضافوا “حتى اليوم لا توجد دراسات علمية أو تقييمات موضوعية، تسبق اتخاذ قرارات مالية بهذا الحجم، فلا نرى تقييماً حقيقياً لواقع الاقتصاد اللبناني أو لمالية الدولة”، ويصفون هذه القرارات بأنها “ارتجالية، كونها اتخذت دون رؤية مالية متكاملة”.

ويرى الخبراء أن مشروع القانون الذي أقر يخص فقط العاملين في القطاع الخاص، ولا علاقة له بالقطاع العام، مشيرين إلى أن “ما يتقاضاه موظفو القطاع العام لا يتلاءم مع التضخم وغلاء المعيشة التي يشهدها لبنان”.

لخطة وطنية متكاملة

في ظل واقع اقتصادي مأزوم، تبدو زيادة الحد الأدنى للأجور خطوة شكلية، إن لم تترافق مع سلسلة إجراءات إصلاحية جذرية تشمل ضبط الأسعار، تفعيل الرقابة، دعم القطاعات الإنتاجية، وتحقيق عدالة ضريبية، وإلا فكل زيادة، مهما بلغ حجمها، ستبقى مجرد “حسنة مالية” تلتهمها نيران التضخم، ويبقى المواطن اللبناني يدفع ثمن سياسات ترقيعية من دون أفق للخلاص. فأي محاولة لمعالجة الأزمات المعيشية عبر رفع الأجور، لن تنجح ما لم تترافق مع خطة وطنية متكاملة تعالج جذور الانهيار، وتعيد الاعتبار لدور الدولة في حماية الفئات الضعيفة عبر سياسات اجتماعية واقتصادية عادلة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى