لبنان يتألق عالمياً: زحلة مدينة الكرمة والنبيذ

كتبت الديار:
في قلب المآسي التي يعاني منها لبنان، وبين رماد الانهيارات السياسية والاقتصادية المتوالية، تومض شرارات من الأمل، تنبعث من عمق الأرض ومن كدّ الأيادي، التي لم تتعب من العطاء.
في ضوء ما تقدم، فان إعلان مدينة زحلة اللبنانية كـ “مدينة عالمية للكرمة والنبيذ” من قبل المنظمة الدولية للكرمة والنبيذ، ليس مجرّد لقب شرفي، بل هو تكليل لمسار طويل من العمل والتفاني، وإنجاز اقتصادي وثقافي بالغ الأهمية في مرحلة لبنان، أحوج ما يكون فيها إلى إنجازات ملموسة تعيد إليه شيئا من هيبته ومكانته.
النبيذ اللبناني، الذي خُمر من كرامة الجبل وندى البقاع، لم يكن يوما مجرّد مشروب فاخر، بل هو مرآة لهويةٍ لبنانيةٍ تنبض بالتنوع والتاريخ والانفتاح. فقد استطاع هذا القطاع، على مدار العقود، أن يفرض نفسه على خارطة الذوق العالمي، وأن يدرّ على لبنان ملايين الدولارات من التصدير، مستقطبا أسواقا في أوروبا وأميركا والخليج، حيث يُقدّر ويُصنف من بين أفضل النبيذات المصنّعة في الشرق الأوسط. إنه اقتصاد الكرمة الذي لا يعرف حدودا، يزاحم في جودة إنتاجه أفخر الكروم الفرنسية والإيطالية، رغم تواضع الإمكانات وتراجع البنى التحتية.
في المقابل، ينبغي الا ننسى انه وسط أتون الحرب “الإسرائيلية” الاخيرة المدمّرة، وفي ظل عزلة اقتصادية خانقة، يواصل النبيذ اللبناني التحليق في الأسواق الدولية كطائر الفينيق الذي ينهض من رماده. وليس وحده النبيذ، فلبنان أثبت مرارا وتكرارا أن في ترابه سرّا، وفي منتجاته بصمة لا مثيل لها: من الزيتون وزيته الذي يضاهي أجود الأصناف في العالم، إلى الزعتر والعسل والصابون الطبيعي، كلها منتجات صنفت ضمن الفئة الأولى عالميا، ما يعكس قدرة الزراعة اللبنانية على المنافسة رغم التحديات الخانقة.
فهل يشكّل هذا الإنجاز مدخلا لموجة جديدة من النجاحات اللبنانية في التصدير الزراعي والغذائي؟ وهل يمكن لهذا النموذج من الاقتصاد المنتج، والمبني على الجودة والتراث، أن يفتح ثغرة في جدار العتمة اللبنانية؟ الأسئلة مشروعة، بل ملحّة، لأننا أمام فرصة نادرة لإعادة الاعتبار لقطاعات لطالما همّشتها السياسات الرعناء، لكنها اليوم تبرهن أنها تمتلك القدرة لا على البقاء فقط، بل على المنافسة عالميا.
في جميع الأحوال، ليست مجرد زجاجة نبيذ فحسب، بل هي زجاجة هوية، تحمل داخلها تاريخاً وحرفة وأمل شعبٍ، يرفض أن يُختصر بمآسيه.
خطوات بناءة والفوز يتخطى الحواجز
بالاستناد الى ما تقدم، يوضح وزير الزراعة الدكتور نزار هاني لـ “الديار” أن التعاون الطويل بين وزارة الزراعة ومزارعي الكرمة في لبنان، إضافة إلى مصنّعي النبيذ المنضوين تحت مظلة معهد الكرمة والنبيذ، الذي تتولى الوزارة الإشراف على إدارته، ويضم في عضويته جميع منتجي النبيذ والنقابات الممثِّلة لمزارعي العنب، كان الأساس الذي مهّد لهذا الإنجاز الوطني”.
ويؤكد أن “هذا التعاون شمل أيضا المنظمة الدولية للكرمة والنبيذ، التي تضم في عضويتها نحو 57 دولة من مختلف أنحاء العالم، من بينها لبنان، الذي يُعدّ عضوا فاعلا فيها منذ زمن طويل. وتتمثل مهمة هذه المنظمة في تطوير معايير زراعة العنب، وتحسين مواصفات صناعة النبيذ وتسويقه عالميا، فضلا عن تنظيم المعارض الدولية وإقامة ورش العمل التدريبية لمزارعي الكرمة ومصنّعي النبيذ. ويشير إلى أن لبنان، من خلال وزارة الزراعة التي تمثّل الدولة اللبنانية في هذه المنظمة، يُعد من الأعضاء النشطين والفاعلين جدا في أعمالها”.
عروس البقاع انثى خصبة تفيض بخيراتها
ويضيف: “بالتنسيق مع بلدية زحلة، تم ترشيح المدينة للحصول على لقب مدينة الكرمة والنبيذ، وقد شكّل هذا التتويج إضافة نوعية لزحلة وللوطن بأسره. فهذا الاعتراف يعني أن إحدى المدن اللبنانية، التي يُعرف محيطها بزراعة كميات كبيرة من العنب، وتضم أبرز مصنّعي النبيذ في البلاد، أصبحت اليوم على الخريطة العالمية. ويُعدّ هذا الإنجاز خطوة جديدة تُسجّل للبنان في سجل التميّز الزراعي والصناعي”.
ويشدّد على “ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن العنب يُعدّ المحصول الأول من حيث حجم الصادرات الزراعية اللبنانية”، مشيرا إلى “أن الحديث لا يقتصر على عنب النبيذ فحسب، بل يشمل أيضا الأنواع المخصّصة للاستهلاك الطازج، وذلك بفضل المناخ المثالي الذي يتمتع به لبنان لهذه الزراعة”. ويلفت إلى “أن العنب صُدّر في عام 2024 بكميات مرتفعة، ووصل الى عدد كبير من الدول حول العالم، مما يعكس مكانته كأحد أبرز المحاصيل اللبنانية المصدّرة”.
ويوجّه هاني تحية تقدير إلى “مزارعي الكرمة ومصنّعي النبيذ، وإلى معهد الكرمة والنبيذ، الذي يبذل جهدا كبيرا في تطوير هذا القطاع، بالتضافر التام مع وزارة الزراعة”. منوّهاً بأهمية “الدور الحيوي الذي يقوم به المعهد، في رفع جودة الإنتاج وتعزيز استدامة هذا المورد الوطني الحيوي”.
نأمل أن تصبح الزراعة جزءا لا يتجزأ من نهضة لبنان
يذكر ان رئيس الجمهورية جوزاف عون كان قد أشاد بهذا الإنجاز، معتبرا انه “انتصار كبير للبنان، ويعكس ثمار الجهود المشتركة التي بذلتها وزارة الزراعة ومنتجو النبيذ اللبناني، لتطوير هذا القطاع وتسويق النبيذ اللبناني عالميا”.
بدوره يعلق هاني قائلا: “مبروك للبنان، وشكر خاص لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون الذي خصّنا بتهنئته، بمناسبة إعلان زحلة مدينة عالمية للكرمة والنبيذ”، مُثمنا الجهود التي بذلتها وزارة الزراعة في هذا المجال، و”التي ساهمت في دفع هذا القطاع قُدما، ووضع زحلة على الخريطة العالمية، وبالتالي ترسيخ حضور لبنان على الساحة الدولية المهمّة. ونتطلع، بإذن الله، إلى مزيد من الإنجازات في المستقبل”.
ويكشف: “النموذج الذي نعمل عليه في قطاع الكرمة والنبيذ، يمكن تطبيقه أيضا في مجالات أخرى مثل الزيت والزيتون والعسل، إلى جانب محاصيل زراعية عديدة أخرى تدعمها وزارة الزراعة، وذلك بالتكاتف الوثيق مع التعاونيات والجمعيات الزراعية والمزارعين. الهدف من ذلك هو تنمية القطاع الزراعي ليصبح جزءا أساسيا من الاقتصاد المنتج، ومن منظومة الأمن الغذائي، ولضمان حياة كريمة لما يقارب 25% من اللبنانيين، الذين يعتمدون على الزراعة كمصدر رئيسي للعيش، وهم منتشرون في مختلف المناطق اللبنانية”.
ويختتم حديثه بالقول: “إذا كانت لدينا زراعة ناشطة في لبنان، فسنمتلك اقتصادا منتجا، وصناعة أكثر ازدهاراً. اذ نفتخر بأن صناعتنا، ولا سيما الصناعات الغذائية، ترتكز في جوهرها على مواد أولية زراعية محلية. نأمل أن تصبح الزراعة جزءا لا يتجزأ من نهضة لبنان، وأن تبقى نبض الأرض والحياة في هذا الوطن”.
شهادة دولية على جودة المنتجات اللبنانية
وقدرتها على المنافسة والابتكار
ختاماً، في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه لبنان من كل جانب، تبرز الزراعة كدعامة أساسية تحمل في طياتها فرصا حقيقية للنهوض والانتعاش بعيدا عن الشعارات السياسية والوعود الزائفة. إعلان زحلة مدينة عالمية للكرمة والنبيذ ليس مجرد تكريم رمزي، بل هو شهادة دولية على جودة المنتجات اللبنانية وقدرتها على المنافسة والابتكار، رغم الظروف الصعبة. من الكرمة إلى الزيتون، ومن العسل إلى مختلف المحاصيل، تثبت الزراعة اللبنانية أنها مورد ثمين ينتظر من يُعطِيها حقها ويستثمر إمكاناتها بفعالية.
من هنا، يشكّل هذا الإنجاز بداية طريق واعدة تعيد رسم خريطة الاقتصاد الوطني، ويوفر مصدر رزق كريم لآلاف العائلات. فالرؤية واضحة: زراعة مزدهرة تعني اقتصادا مثمرا وصناعات غذائية متينة، وموقعا مرموقا للبنان على الساحة العالمية، وطن الطعم الأصيل والتربة الغنية.
ورغم ما يُثار أحيانا من انتقادات وملاحظات، تتعلق بتجاوزات أو خلل في بعض القطاعات، وهو أمر تؤديه “الديار” بكل صدق ومسؤولية من خلال دورها الرقابي والإعلامي، إلا أن التزامنا المهني يدفعنا أيضا إلى تسليط الضوء على الجوانب الإيجابية والإنجازات التي تشكل أملًا حقيقيًا في ظل الظروف الراهنة.
تؤمن “الديار” بأن مهمتها لا تقتصر على كشف الأخطاء والفساد، بل تمتد لتشمل التقدير والاحتفاء بالمبادرات التي تقدم الخير والنهضة للبلاد. نحن نلتزم بالحياد والموضوعية، نعبّر عن الحقيقة بكل أبعادها، ونُبرز الإنجازات بكل شفافية، دعما لمسيرة تعافٍ تُعيد للبنان مكانته، وتمنحه فرصا جديدة للنمو والتحليق.