سلام: لا تسوية على حساب العدالة ولا إصلاح من دون محاسبة

أكد رئيس الحكومة الدكتور نواف سلام، في كلمة ألقاها قبل الجلسة الحوارية المشتركة، بين وزير الثقافة غسان سلامة ووزيرة الشؤون الإجتماعية حنين السيد، لمناقشة تداعيات انفجار الرابع من آب بعد مرور خمس سنوات على وقوعه، في المكتبة الوطنية – الصنائع، أن “دولة القانون لا تُبنى بالشعارات، بل تُبنى حيث يُحترم القضاء، وتُصان استقلاليته”.
وقال: “في هذا اليوم، نستحضر واحدة من أكثر اللحظات وجعا في تاريخنا المعاصر. لحظة لم تُصِب أهل الشهداء والضحايا وحدهم، بل أصابت الوطن بكامله في قلبه وضميره. انفجار 4 آب لم يكن مجرّد كارثة انسانية، كان لحظة صادمة اختُبرت فيها الثقة بين المواطن والدولة، وانكشفت فيها ثغرات عميقة في حياتنا العامة وفي واقع المساءلة في بلادنا. ولذلك، فإنّ معرفة الحقيقة عمّا جرى، ومحاسبة من يتحمّل المسؤولية، ليسا مطلبا خاصا، بل قضية وطنية جامعة.
اليوم، لا يمكننا أن نُحيي ذكرى 4 آب من دون أن نستذكر كل اسم من اسماء الشهداء والضحايا التي لا تغيب عنّا، فكل اسم منهم حكاية مفقودة، في ذاكرة هذا الوطن. كل واحد منهم كان حياةً كاملة، فردًا وعائلةً، واقعاً وحلماً، حاضراً ومستقبلاً، وجرحهم ما زال مفتوحا، لأن العدالة لم تتحقق بعد، ولأن المحاسبة تأخرت. وبيروت … بيروت التي استُهدفت، في ثوانٍ، في قلبها وأبناءها وواجهاتها وحياتها، عاصمة ثكلى على مرفئها، مدينة ما زالت حتى اليوم تلملم شظاياها بألم لم يفارقها، لكن مدينتنا الحبيبة قامت من رمادها، وبقيت عصية على الانكسار.
ففي مقابل وجه 4 آب موجِع، هناك وجهٌ آخر لا يقل عمقًا: وجه الخامس من آب. الخامس من آب هو اسمٌ آخر لإرادة الحياة وللتضامن الوطني. هو اندفاع الشابات والشباب من كل المناطق، من دون دعوة، من دون مقابل، ليرفعوا الركام، ليداووا الجراح، ويستردّوا نبض المدينة. جيل لم يكن في موقع المسؤولية عمّا جرى، لكنه اليوم في طليعة من يطالب بالعدالة، لأنه يريد قيام دولة تحفظ امن الناس وتذود عن ارزاقهم. هذا هو وجه لبنان واللبنانيين الذي لا يُقهر.
ولأننا مدينون لهؤلاء، فإن العدالة في 4 آب ليست مسألة خاصة أو قضائية فقط. إنها في جوهرها سؤال حول طبيعة البلد الذي نريد أن نعيش فيه. فمن دون عدالة، لا معنى للمواطنة، ولا جدوى من الدولة. فلا دولة من دون قانون، ولا قانون من دون قضاء، ولا قضاء من دون محاسبة. الإفلات من العقاب، عبر عقود، لم يعد مجرد نتيجة عرضية، بل أصبح ثقافة. ثقافة أعاقت الإصلاح، وشوّهت السيادة، وقوّضت الثقة بالمؤسسات، وأضعفت شعور المواطن بحقوقه. ثقافة الإفلات من العقاب هي التي جعلت الفساد مستمرا، والانهيارات متكرّرة، والجرائم السياسية بلا أجوبة. هي التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، لأنها ألغت مبدأ المسؤولية، وضربت مبدأ المساواة أمام القانون، فقوّضت المحاسبة. ولذلك، فإن مواجهة هذه الثقافة تتطلب التزاماً تأسيسياً. هي نقطة البداية لأي إصلاح حقيقي، ولأي بناء سليم لمؤسسات الدولة. لا سيادة بلا محاسبة. لا إصلاح بلا محاسبة. لا دولة قانون بلا محاسبة.
دولة القانون لا تُبنى بالشعارات، بل تُبنى حيث يُحترم القضاء، وتُصان استقلاليته، ويُترك له أن يقوم بعمله من دون تعطيل أو تدخل أو خوف. فالمحاكمة العادلة لا تكون منّة من أحد، بل واجب الدولة، وحق للضحايا كما للمتهمين، وضمانة للعدالة نفسها. من هنا، كان التزام الحكومة، والتزامي الشخصي، الدفع قُدُمًا نحو إقرار قانون استقلالية القضاء العدلي، لأنه المدخل لإنهاء زمن التدخلات وزمن الإفلات من العقاب، والانتقال إلى دولة يحكمها القانون وحده.
أعلم أن الكثير من اللبنانيين واللبنانيات يشعرون أن الحقيقة ما زالت بعيدة، وأن العدالة متأخرة. لكنّي أقولها اليوم بوضوح: لا تسوية على حساب العدالة. لا غطاء فوق رأس أي مسؤولية. ولا نهاية لهذا الجرح الوطني إلا بكشف الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين، كل المسؤولين وأياً كانوا، أمام القضاء.
كل التجارب في بلدنا، على مدى العقود، أظهرت أن منطق التسويات لا يصنع عدالة. أنصاف الحلول لا تُنهي المآسي، بل تعيد إنتاجها. أما العدالة، فهي وحدها التي تفتح طريق الإنصاف، وبلسمة الجراح والمصالحة وبناء الثقة.
لذلك، فإن الخروج من هذه المأساة، كدولة ومجتمع، يبدأ من لحظة حاسمة واحدة: أن نقرّ بأن لا أحد فوق المساءلة والمحاسبة. وأن العدالة ليست ضد أحد، بل في مصلحة الجميع. أعرف عمق الألم، وأتفهم الشك، وأشعر بالمسافة التي نشأت بين المواطن والدولة. لكنّي أيضا أؤمن أن التغيير بدأ، وأنه لن يتوقف. وإن كانت الطريق طويلة، فإنها بدأت تُرسم، بثبات، بإصرار، وبخطوات واثقة نحو دولة حقيقية، وفي هذا السياق، أجدد اليوم امامكم تمسكنا بما التزمنا به في البيان الوزاري:
بناء دولة قوية عادلة، سيّدة، حرّة، مستقلة. دولة لن توفّر جهداً لأنهاء الاحتلال الإسرائيلي عن كل شبر من أراضينا، ولبسط سلطتها على كامل أراضيها بقواها الذاتية حصراً. دولة يكون قرار الحرب والسلم في يدها وحدها. دولة حق وقانون تنهي الإفلات من العقاب وتحقق العدالة، ويبقى ان طريقنا الوحيد اليها هو استكمال مسيرة الإصلاح السياسي والمالي والإداري.
لنُسمِع كل من ظنّ أن لا عدالة يمكن ان تقوم يوماً في هذا البلد أن زمن الصمت قد انتهى. هذا التزامنا أمامكم. وهذا واجبنا الوطني والإنساني والاخلاقي تجاه الشهداء والضحايا وذكراهم. وهذا إيماني الشخصي، أن لبنان، برغم كل الصعاب، قادر على النهوض بعزيمة شابّاته وشبابه، وأن العدالة، ولو تأخرت، لا بد أن تتحقق، وان لا سبيل اليها الا بجلاء الحقيقة. فلنجعل من 4 آب خاتمة زمن الإفلات من العقاب، وبداية زمن دولة الحق، دولة القانون، دولة العدالة”.