لبنان

ما بعد “قمة ألاسكا”… الأوروبيون يتداركون خساراتهم

الأخبار: لندن |

انتهت القمة التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة، في «قاعدة إلمندورف الجوية»، الواقعة في أنكوريغ، العاصمة الاقتصادية لولاية ألاسكا، من دون التوصل إلى اتفاق فوري لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، على عكس ما كان يتأمله نظام كييف وحلفاؤه الأوروبيون. وبدلاً من ذلك، توافق الرئيسان على مبدأ السعي إلى إبرام «اتفاق سلام شامل»، ما أثار ردود فعل دولية متفاوتة، تراوحت بين الترحيب الحذر في موسكو والقلق العميق في كييف والترقب في العواصم الأوروبية. وحالياً، تتجه الأنظار بشكل كامل إلى اجتماع حاسم من المقرر عقده في البيت الأبيض اليوم، بين ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

وفي مشهد يحمل عدداً من الدلالات السياسية، كان بوتين قد حظي باستقبال رسمي حافل قبيل بدء المفاوضات، التي استمرت قرابة ثلاث ساعات خلف الأبواب المغلقة، وخرج الرئيسان بعدها أمام وسائل الإعلام ليصفا اجتماعهما بعبارات إيجابية عامة؛ إذ قال ترامب إن المحادثات كانت «مثمرة جداً»، بينما عدّها بوتين، من جهته، «بناءة ومفيدة»، مؤكداً أنه أتيحت له الفرصة «لشرح موقفنا وأسباب هذه الأزمة وجذورها»، وأن «القمة تؤسس لتطبيع العلاقات مع واشنطن».

على أن التفاصيل الفعلية للمحادثات سرعان ما بدأت تتكشف مع الوقت، ولا سيما عقب إعلان ترامب، في منشور عبر منصته «تروث سوشال»، أنّه «تقرر من قبل الجميع أن أفضل طريقة لإنهاء الحرب المروعة بين روسيا وأوكرانيا هي التوجه مباشرة إلى اتفاق سلام، وليس مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار، لا يصمد في كثير من الأحيان»، وهو ما عدّته كييف وسائر حلفائها الأوروبيين بمثابة تراجع واضح من جانب ترامب عن تهديداته السابقة بفرض «عواقب وخيمة» على موسكو، إذا لم توافق على وقف القتال.

كذلك، أفادت تقارير إعلامية متقاطعة، نقلاً عن مسؤولين أوروبيين تم إطلاعهم على مضمون المحادثات، أن بوتين طرح عرضاً يطالب فيه بانسحاب أوكرانيا من كامل الأجزاء المتبقية من إقليم دونباس (أقل من 20 المئة من مجمل مساحة الإقليم)، مقابل تجميد القتال على طول خطوط الجبهة الحالية في مناطق خيرسون وزاباروجيا الجنوبية.

وكانت قد رحّبت موسكو بنتائج القمة، وعدّتها بمنزلة انتصار دعائي وديبلوماسي؛ إذ ركزت وسائل الإعلام الرسمية بشكل كبير على مظاهر الاستقبال الحافل الذي حظي به بوتين، من السجاد الأحمر إلى مرافقة المقاتلات الأميركية لطائرته، معتبرة أن هذه الصور تنهي بشكل قاطع الحديث عن «عزلة روسيا». وفي هذا السياق، كتبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بسخرية على قناتها في تليغرام: «وسائل الإعلام الغربية في حالة هوس… لسنوات تحدثوا عن عزلة روسيا، واليوم رأوا السجاد الأحمر يُفرش للرئيس الروسي في الولايات المتحدة».

أمّا في كييف، فكانت الأجواء قاتمة، بعدما شعر عدد من الأوكرانيين بالاستياء والغضب من المشاهد القادمة من ألاسكا. ونقلت وكالات الأنباء عن مواطنين في العاصمة قولهم إنهم شعروا «بالانسحاق» لرؤية بوتين، الذي يعتبرونه «مجرم حرب»، يُستقبل في الولايات المتحدة، راعية بلادهم، بحفاوة بالغة. وفي سلسلة من التصريحات، حاول زيلينسكي الموازنة بين عدم معارضة جهود التسوية بشكل مباشر من جهة، وتجديد خطوط كييف الحمراء من جهة أخرى، معتبراً أنّ «السلام الحقيقي يجب أن يكون دائماً، وليس مجرد هدنة بين الغزوات الروسية».

كما ردّد زيلينسكي موقف ترامب السابق حول «ضرورة وقف المقتلة في أسرع وقت ممكن»، محذراً من أنّ موسكو «قد تستغل الأيام المقبلة لتصعيد هجماتها بهدف تحسين موقفها التفاوضي». من جهتهم، أكد مسؤولون أوكرانيون آخرون أن «أي قرار يتعلق بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها لا يمكن اتخاذه من دون مشاركتها وموافقتها الكاملة».

وفي تصريحات لاحقة، قال زيلينسكي: «لا أعرف بالتحديد ما دار بين بوتين والرئيس ترامب»، مشيراً، خلال مؤتمر صحافي مشترك في بروكسل مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، إلى أن «ما يقوله لنا الرئيس ترامب بشأن الضمانات الأمنية يفوق أفكار بوتين أهمية بالنسبة إلي، لأن بوتين لن يعطينا أي ضمانة أمنية». وأضاف أنّ لدى بوتين «العديد من المطالب» لإنهاء الحرب، لافتاً إلى أنه «إذا كان هناك بالفعل العدد الذي سمعنا به، فالنظر فيها سيحتاج إلى بعض الوقت».

وبدورها، رحّبت فون دير لايين باقتراح ترامب تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، مستلهمة من “معاهدة حلف شمال الأطلسي”، مشددةً على وجوب أن تتمكّن أوكرانيا من «الحفاظ على وحدة أراضيها». كما أعربت رئيسة المفوضية عن أملها في انعقاد قمة ثلاثية «في أسرع وقت ممكن»، وهو الأمر الذي استبعده زيلينسكي، قائلاً إنه «لا يتوافر، في هذه المرحلة، أي مؤشر من جانب روسيا إلى أن القمة الثلاثية ستعقد».

وفي أوروبا، أصدر قادة عدد من الدول، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، بياناً مشتركاً بعد تلقيهم إيجازاً من ترامب بخصوص القمة. وبينما أشاد هؤلاء بانفتاح الرئيس الأميركي على إشراكهم في أي عملية سلام مستقبلية، فهم حاولوا يائسين تجديد سقوفهم العالية للتسوية، بالتشديد على أن «الأمر سيعود إلى أوكرانيا لاتخاذ القرارات بشأن أراضيها»، محذرين من أنّ «الحدود الدولية يجب ألا تتغير بالقوة». كما أكدوا استعدادهم للمشاركة في تقديم «ضمانات أمنية متينة» لأوكرانيا، وهو ما يمثل مطلباً رئيسياً لدى كييف، معلنين عن عقد اجتماع لـ«تحالف الراغبين»، أمس، للتباحث في «الخطوات التالية»، استباقاً لاجتماع اليوم في واشنطن بين ترامب وزيلينسكي.

هكذا، ومن موقع ضعف التأثير، بدا أن الأوروبيين يتبنون إستراتيجية ملتبسة ذات بعد مزدوج: دعم المسار الديبلوماسي البراغماتي الذي تقوده واشنطن من جهة، وتصلّب المواقف حول مثاليات القانون الدولي ومصالح أوكرانيا – التي لا تعكس بأي حال الأوضاع على الأرض – من جهة أخرى.

وفي هذا السياق الملتبس، يأتي لقاء واشنطن المرتقب عقب تقديم ترامب، في مقابلة تلفزيونية أخيراً، «نصيحة مباشرة» لزيلينسكي بـ«عقد صفقة»، ما جعل عدداً من المراقبين يتخوفون من تكرار سيناريو اللقاء المتوتر الذي جمع الرجلين في شباط الماضي، والذي تعرض فيه الرئيس الأوكراني لـ«إذلال علني» من قبل ترامب ونائبه جي دي فانس. ولتجنب مثل ذلك السيناريو، أُقرت مشاركة عدد من القادة الأوروبيين – على رأسهم ماكرون وستارمر وميرتس – في اجتماع واشنطن، بهدف إظهار جبهة غربية موحدة، ودعم الموقف الأوكراني، والتأكد من أن أي مفاوضات مستقبلية تشمل الحلفاء الأوروبيين.

على أي حال، ورغم أنّ «قمة أنكوريغ» لم تسفر عن اتفاق، فإنّها فتحت الباب أمام فرصة التوصل إلى واقع سياسي جديد يسمح للقوتين النوويتين الأعظم، أي موسكو وواشنطن، بتجاوز مأزق أوكرانيا، والانطلاق نحو تعاون أوسع في ملفات ديبلوماسية واقتصادية وأمنية وغيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى