لبنان

منطقة ترامب الاقتصادية في الجنوب: سمّ في العسل!

كتب د. عدنان منصور في البناء:

المقترح الأميركي الذي ظهر فجأة في الآونة الأخيرة، وروّج له المبعوث الأميركي توم برّاك، يهدف كما يبدو الى إنشاء منطقة اقتصادية على أجزاء من الأراضي اللبنانية الملاصقة للحدود الفلسطينية، بغية تحقيق الأمن والاستقرار في الجنوب، وتنميته اقتصادياً وصناعياً، وبنيوياً بمشاركة دول عربية وأجنبية!

تفاصيل هذا المقترح لم تتبلوَر بشكل واضح وكامل حتى الآن، إلا أنّ عناوينه، وما تسرّب منه، تطرح تساؤلات كثيرة وعلامات استفهام نظراً لما تثيره من مخاوف وهواجس، لكون منطقة ترامب الاقتصادية،

ستطيح بكلّ تأكيد بالقرار 1701 القاضي بانسحاب “إسرائيل” الكامل من الأراضي اللبنانية، وأيضاً ستجهض اتفاق وقف إطلاق النار المتفق عليه في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 بين لبنان و”إسرائيل”. منطقة ترامب “الاقتصادية” كما يبدو، ستعزل جزءاً من الأرض اللبنانية بعد ترحيل سكان القرى المقيمين داخلها، وتعطي بالتالي الحق للولايات المتحدة بحصرية إدارتها، وفرض الأمن فيها. بذلك تصبح المنطقة امتداداً جغرافياً، وأمنياً، واقتصادياً، وتجارياً، لدولة الاحتلال الإسرائيلي بغطاء شرعي وإدارة أميركية أميركي، ستتيح المجال للإسرائيليين في ما بعد للتمركز أمنياً، والعمل على الاستثمار فيها، وشراء الأراضي بغطاء أميركي وغير أميركي.

لا شك في أنّ منطقة ترامب، ستعمد إلى ترحيل السكان نهائياً عنها، وانتزاع أو شراء الأراضي من ملاكيها بالإكراه او بالإغراء، مثل ما كانت تفعله الحركة الصهيونيّة في فلسطين قبل تأسيس الكيان “الإسرائيلي” مع الملاكين الفلسطينيين!
إذا ما تمّت موافقة الحكومة اللبنانية على إنشاء منطقة ترامب الاقتصادية، فإنّ هذه المنطقة ستنصب فخاً للبنان تبيّته له الولايات المتحدة و”إسرائيل”، لأن ليس هناك مَن سيمنع الإسرائيليين مستقبلاً من شراء أراضٍ في منطقة ترامب تحت مسمّيات مختلفة وأشكال عديدة، تؤدي إلى إقامة الشركات الإسرائيلية فيها، والتمركز الأمني، والاستخباري وحتى العسكري عليها؟!

منطقة ترامب الاقتصادية التي وراءها واشنطن وتل أبيب ليست إلا مقدّمة لقضم المزيد من الأراضي والبلدات اللبنانيّة رويداً رويداً وصولاً في ما بعد إلى الليطاني، وما بعد الليطاني، وهو الهدف الرئيس الذي راود الحركة الصهيونيّة منذ أكثر من قرن، وقبل قيام “إسرائيل” عام 1948. ألم يكتب مدير الصندوق القوميّ للاستيطان اليهوديّ في فلسطين يوسف ويتز yossef Weitzعام 1940 ليقول: “يجب أن نشرح لروزفلت (الرئيس الأميركي) ولكلّ زعماء الدول الصديقة، بأنّ أرض “إسرائيل” ليست صغيرة جداً إذا تركها العرب ورحلوا عنها. وإذا توسّعت حدودها قليلاً نحو الشمال على طول الليطاني، ونحو الشرق على مرتفعات الجولان”.

في سنة 1919، وفي مؤتمر السلام في باريس الذي عُقد بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى، قدّم زعيما الحركة الصهيونية حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون خريطة للدولة الإسرائيلية المقترحة التي تضمّ نهر الليطانيّ داخلها، إلا أنّ اتفاقيّة سايكس ـ بيكو السريّة بين فرنسا وبريطانيا، أفشلت المطالب الصهيونيّة بسبب إصرار فرنسا على الالتزام بالاتفاقية التي قضت بأن يذهب نهر الليطانيّ إلى لبنان!

إذا كان حلم “إسرائيل” قد تحقق في توسّعها على مرتفعات الجولان وما هو أبعد من الجولان، وسيطرتها على مياهه السطحية والجوفية، وينابيعه، وضمّه إلى دولة الاحتلال بموجب قانون صدر عن الكنيست الإسرائيليّ عام 1981 بعد أربعة عشر عاماً من احتلال “إسرائيل” للجولان عام 1967, فإنّها تعمل حالياً على التوسّع وصولاً الى الليطاني عاجلاً أم آجلاً، لتحقيق هدف بن غوريون الذي نسب إليه قوله: “إنّ أمنيتي للمستقبل جعل الليطاني حدود إسرائيل الشمالية”.

ما هي حدود منطقة ترامب الاقتصادية، او بالأحرى القول حدود منطقة “إسرائيل” الاقتصادية في جنوب لبنان؟! حالياً، هذه المنطقة الاقتصادية المحتلة على بُعد كيلومترات قليلة من نهر الليطاني، حيث “إسرائيل” ترصده منذ زمن طويل، وتتطلع اليه بفارغ صبر، وتطمع به بعد أن حققت إنجازاً كبيراً، من خلال سيطرتها شبه الكاملة على مياه انهار الحاصباني والوزاني، واليرموك، وبذلك يصبح جزءاً مهماً من حوض الليطانيّ ومياهه في حوزة “إسرائيل”.

السمّ الذي تضعه واشنطن وتل أبيب في “عسل” منطقة ترامب الاقتصادية، الهدف منه تهجير السكان بحجة بناء منشآت وشركات اقتصادية ومالية، ومصانع، وبنى تحتية، بالإضافة أيضاً إلى منع العمال اللبنانيين الذي سيعملون في الشركات والمؤسسات من السكن في المنطقة، مما سيؤدي عملياً إلى ترحيل جماعي و”تطهير” عشرات القرى الواقعة داخل “منطقة ترامب” الاقتصادية من سكانها، مما سيفرض واقع احتلال “إسرائيلي” بغطاء “شرعي” كامل، مكرّس ومغلف بالسلام والاستقرار، والتنمية وبناء ما هدّمه العدو الإسرائيلي!

منطقة اقتصادية ترى فيها “إسرائيل” قبل واشنطن، أنها ستجعل من الصعب على المقاومة إعادة انتشارها، وإعادة تعزيز وجودها العسكري والميداني على مقربة من الحدود “الإسرائيلية ومستوطناتها”.

في شهر آب/ أغسطس 2026، ستنتهي مهمة قوات حفظ السلام في جنوب لبنان (اليونيفيل”)، وإذا ما أقرّت خطة منطقة ترامب الاقتصادية، ستعمد “إسرائيل” مستقبلاً عبر واشنطن إلى الابتزاز من جديد، ولـ “دواعٍ” أمنيّة إلى توسيع رقعة “منطقة ترامب” لتشمل القرى التي كانت تتمركز فيها اليونيفيل، وبعد ذلك ستقوم باستملاك الأراضي بالإكراه أو بالإغراء او بالشراء، وترحيلهم عنها.

لو كانت غاية الولايات المتحدة الحقيقية من إنشاء منطقة ترامب الاقتصادية، التنمية الاقتصادية في الجنوب، فهل تتطلّب هذه التنمية ترحيل السكان، وتفريغ القرى من سكانها، وإناطة الأمن بالإسرائيليين بقناع أميركي، ومنع اللبنانيين الذين سيعملون في مشاريع المنطقة من السكن فيها؟! إذا كانت الولايات المتحدة تريد فعلاً تنمية اقتصادية للجنوب، لماذا حصر التنمية بمنطقة تفرض عليها سلطة الأمن من الخارج، وتسلخ عن وطنها، وتدار من قبل أجهزة امنية واستخبارية، وشركات إسرائيلية تحت أسماء مستعارة أو مبطنة، بعيداً عن رقابة الدولة اللبنانية، وحق ممارسة سيادتها على أرضها !

احتلال “إسرائيل” للضفة الغربيّة عام 1967، جعلها تنتظر الفرصة السانحة لها للسيطرة نهائياً عليها. هذه الفرصة أصبحت متاحة لها، ما جعلها تتخذ قرارها للسيطرة على الضفة الغربية تمهيداً لضمّها الى كيان الاحتلال مثل ما فعلته مع الجولان والقدس الشرقيّة، رغم أنف الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، والقوانين الأممية ذات الصلة !

حتى لا تتكرّر الكارثة في جنوب لبنان، على الحكومة اللبنانية، وكلّ القوى الوطنية والحزبية أن تقف وقفتها الوطنية الرافضة بكلّ حزم لهذا المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي الخبيث، الذي يحمل في ظاهره التنمية الاقتصادية، وإعادة الإعمار، وفي جوهره سلخ جزء من الجنوب اللبناني، والسيطرة عليه اقتصادياً، وأمنياً وعسكرياً، تديره ظاهرياً أميركا، وفي العمق تمسك بمفاصله كلها دولة الاحتلال “الإسرائيلي”! ليعلم اللبنانيون، أنّ منطقة ترامب الاقتصادية، ليست إلا واجهة لـ “إسرائيل”، وبداية للقضم والضمّ لأراضٍ لبنانية يعمل عليها العدو الإسرائيلي منذ زمن طويل! هل ستشرب الحكومة اللبنانية هذه المرة حليب السباع، وترفض بالشكل والأساس المقترح الأميركي، أم أنها ستقبل بالعسل الأميركي ـ “الإسرائيلي”، وإنْ وضع السمّ القاتل في داخله؟!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى