الحصاد السياسي لضربة الدوحة.. “إسرائيل” للوسطاء: لسنا في مفاوضات ندّية

كتبت يحيى دبوق في الأخبار:
في التاسع من أيلول الجاري، نفّذت إسرائيل ضربة جوية استهدفت فيها قيادة حركة «حماس» في الدوحة، في خطوة لم تكن مفاجئة في مكانها وتوقيتها فقط، بل في فشلها أيضاً؛ إذ لم تُسفر الضربة عن مقتل أيٍّ من القيادات المُستهدَفة، كما أنها لم تُغيّر موازين القوى الميدانية، وتالياً لم تقرّب إسرائيل من أهدافها في تصفية الصفّ الأول السياسي لدى أعدائها.
لكنها، على رغم كل ذلك، لم تكن فشلاً مطلقاً، ذلك أن جزءاً معتدّاً به من الأهداف، تحقَّق عبر الضربة، وإنْ فشلت في تحقيق غرضها الماديّ المباشر، إذ تراهن إسرائيل على أن العملية ستعيد تشكيل قواعد اللعبة التفاوضية لمصلحتها، وستحصرها في مسار واحد فقط: التفاوض لتحصيل استسلام مطلَق من «حماس»، وليس أيّ تسوية معها.
في التداعيات المباشرة للفشل، يشار إلى أن التكلفة السياسية كانت باهظة، وإنْ كان يمكن تحمُّلها لدى صنّاع القرار في تل أبيب: إدانة دولية في مجلس الأمن، بتوقيع أميركي، لجأت إليه واشنطن علّها تتخفّف من بعض الإحراج أمام شركائها؛ غضب قطري وخليجي من إسرائيل، وتهديدات بسحب الوساطة من المسار التفاوضي؛ تشوُّه صورة «القوة الإسرائيلية المطلقة»، خصوصاً في قدرتها على تنفيذ عمليات دقيقة خارج حدودها؛ وتعقيد أيّ مسار تفاوضي لاحق، بسبب فقدان عامل الثقة بالإسرائيليين والخشية منهم.
لكنّ تلك الأثمان لا تُعدّ «كارثية» من منظور رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وائتلافه، لأنها لا تُهدّد وجود حكومته واستمرارها، فضلاً عن أنها لا تغيّر موازين القوّة داخل الكيان العبري، ولا تجبر إسرائيل على تقديم تنازلات نتيجة للفشل نفسه، كما أنها – وهو الأهمّ – لا توقف الحرب على غزة، قبل تحقيق أهدافها كاملةً؛ علماً أن هكذا عملية، بمعزل عن نتيجتها، من شأنها أن تضعف أيّ مسار تفاوضي لا يفضي إلى استسلام فلسطيني كامل، وهو ما يخدم أجندة رئيس حكومة العدو وأهدافه.
أمّا الهدف الحقيقي لتوجيه الضربة، فلم يكن إنهاء حركة «حماس»، إذ تدرك تل أبيب جيّداً، أن هكذا ضربات لن تنهي الحركة وتسقطها، وإنْ كان من شأنها أن تربكها وتشوّش عليها مؤقّتاً؛ بل إعادة ترسيم قواعد التفاوض، أي أن لا تكون مفاوضات بين أطراف ندّية ومتوازنة، وأن لا يكون هدفها تسويات بتنازلات متبادَلة، وأن لا تعني منح شرعية وحصانة لطرف يتفاوض مع إسرائيل، وإنْ في ساحات حليفة وشريكة. والهدف أيضاً، هو فرض شروط إسرائيلية مطلقة عبر تهديد الوسطاء و»حماس»، وكل ذي صلة بالمسار التفاوضي، أي إن أيّ مفاوضات يجب أن تكون مخرجاتها هي التالية: نزع سلاح «حماس»، وتفكيكها، وإنهاء حكمها، أو لا مفاوضات. وما تقدَّم هو الإنجاز السياسي للضربة، حتى وإنْ كانت فاشلة عسكريّاً واستخباريّاً.
أمّا من ناحية نتنياهو، فهو لا يدفع ثمن الفشل، بل يتلقّى منفعة الإنجاز السياسي للضربة، من خلال تعزيز صورته داخليّاً كـ»قائد لا يتراجع»، حتى لو كلّفه ذلك غضب العالم كله وإداناته، فضلاً عن أنه يضعف أيّ ضغط سياسي داخلي أو خارجي عليه لإنهاء الحرب عبر صفقات وتسويات، لأن العالم سيكون مشغولاً في كبح جماحه وفرملته، وليس في دفعه إلى التنازل، كما أنه يراهن على إجبار الوسطاء، قطر ومصر وأميركا، على قبول شروطه كأساس لأيّ مسار تفاوضي مقبل.
أما في مسار الإعداد للضربة العسكرية الميدانية، واحتلال مدينة غزة، فلا شيء تغيّر عمليّاً. فعلى رغم ضجّة الإدانات والتصريحات الشاجبة، إلّا أن الاستعدادات للهجوم البرّي على غزة، ما زالت مستمرّة بلا إبطاء. فالضربة في الدوحة لم تؤجّل الغزو، بل قد تكون ساهمت في تأخيره لبعض الوقت، لأسباب سياسية وليس استراتيجية.
أيضاً، لم يطرأ، نتيجة العملية والمواقف التي أعقبتها، أيّ تغيير في خطّة احتلال كامل القطاع، وهو الهدف الأسمى لليمين الإسرائيلي، كما لم يتغيّر شيء في هدف تفكيك «حماس» عسكريّاً وسياسيّاً، ولا في خطّة تهديد سكان غزة وفرض واقع جديد لا يسمح بعودة أيّ كيان فلسطيني كما كان عليه الحال قبل أكتوبر 2023، فيما أدنى ثمن، وهو تخفيف الحصار عن غزة، لم يجرِ تداوله ولم تُجبَر إسرائيل عليه نتيجة الضربة.
على الجانب الخليجي، حيث ارتفعت الأصوات والإدانات، ليس ثمّة تغيير حقيقي تراه إسرائيل. فهي لم تضرب في الدوحة مع مجازفة بتلقّي ردود فعل حقيقية من الخليجيين، بل لأنها متأكّدة من أن أحداً لن يلجأ إلى معاقبتها أو إلى تغيير اصطفافه إلى جانبها.
وهذا العامل جزء لا يتجزّأ، وربّما هو أهمّ ما حفّز إسرائيل على الاعتداء، وفق التوقّعات الآتية:
1- لن تقطع قطر علاقاتها مع إسرائيل، ولن تواجه، لأنها لا تستطيع تحمُّل ثمن المواجهة، فيما لن يعيد الخليج النظر في مسألة التطبيع، لأن رهاناته كلّها على التموضع إلى جانب إسرائيل وأميركا.
2- ستستمر إسرائيل في الضغط العسكري على مدينة غزة، مع تأجيل مؤقّت للهجوم البرّي، الذي لم يُلغَ.
3- ستستمر إسرائيل، أيضاً، نتيجة الخلافات والتجاذب الداخلي فيها وليس نتيجة الضربة في الدوحة، في حصار غزة وعزل أحيائها، و»تقشير» ضواحيها بالتدريج، وليس المسارعة إلى اجتياحها.
4- إعادة إطلاق المسار التفاوضي، بصيغة وحلّة جديدتَين، مع رهان إسرائيلي على أن الوسطاء، كما «حماس» نفسها، يدركون أن الهدف منها سيكون حصراً تمكين إسرائيل من تحقيق الانتصار المطلق، باستسلام الحركة تحت غطاء التفاوض.
5- رهان إسرائيل على تماشي الوسطاء مع إملاءاتها، والطلب إليهم إجبار «حماس» على التنازل، وليس «تسهيل تفاهم متبادل»، كما كان يُعمل عليه سابقاً.
6- قد تزداد عزلة إسرائيل، لكن لا يُتوقّع أن تتحوّل أيّ من التحركات الشاجبة في الغرب إلى عقوبات، إذ من المُقدَّر أن تستمرّ الإدانات اللفظية، من دون خطوات عملية.
7- لا تداعيات واسعة داخل إسرائيل: لا تغيير في الحكومة، بل تعزيز موقع نتنياهو فيها؛ لا تمرّد للجيش، على رغم استمرار اعتراضه؛ ولا شارع ولا تظاهرات ولا احتجاجات من شأنها أن تطيح رئيس الحكومة، على رغم استمرار الحراك الشعبي ضدّه. في المقابل، ستزداد شهيّة اليمين للمزيد من الأفعال المتطرّفة، خاصة أن تداعيات عملية الدوحة محدودة.
8- والأهمّ، أنه لم يَعُد في الإمكان استبعاد أن تلجأ إسرائيل إلى ضربات خارجية جديدة، في ساحات أخرى شريكة و»حليفة» لأميركا، وإنْ من غير المُقدّر أن يكون قرارها عشوائيّاً أو غير مخطّط له بتأنٍّ مع واشنطن لتجنّب الإحراج السياسي للإدارة. فإسرائيل، بعدما كسرت حاجز تجاوز الشراكات لفرض إرادتها ومصالحها، لن تتوقّف عند حدود الدوحة.