استنساخ السياسات الضريبية السابقة؟

كتبت زينب بزي في الأخبار:
اعتمدت الموازنات العامة في لبنان، منذ سنوات، على سياسات ضريبية تقليدية لم يطرأ عليها أي إصلاح فعلي. ويبدو أنّ التوجّه نفسه سيُعتمد في موازنة عام 2026، كما يرد في بنود هذه الموازنة بأرقامها وموادها القانونية، ما يعني تكريس الاختلالات البنيوية، لا سيّما نتنائجها التي ظهرت في السنوات الأخيرة لجهة تآكل القدرة الشرائية، والضغط على المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة وتراجع الحافز على الاستثمار والإنتاج. وهذا يعني أنّ الاقتصاد سيبقى في حلقة مفرغة من العجز والركود، فيما سيؤدّي غياب الإصلاح الضريبي الجذري، فرص التعافي.
ارتكزت موازنة 2025 على الاعتماد المكثّف على الضرائب غير المباشرة، لا سيّما ضريبة القيمة المضافة، إضافةً إلى الرسوم الجمركية والضرائب على الاستهلاك، من دون تقديم أي إصلاح جوهري في هيكل الضرائب أو ضبط الإنفاق أو معالجة التهرّب الضريبي.
برأي رئيس «الجمعية الاقتصادية اللبنانية» منير راشد، «لا يوجد حتى الآن دليل جدّي على وجود توجّه إصلاحي موثوق»، بل استمرار سياسات «الترقيع» الضريبية. وبذلك ستتضاعف الفجوة بين الطبقات الاجتماعية التي أسهم فيها ضعف التدرّج في ضريبة الدخل بالتوازي مع تهرّب ضريبي يقدّر بما بين 4 مليارات دولار و5 مليارات دولار سنوياً.
عوامل كهذه أسهمت في تفاقم الأزمة، إلا أنّ ذلك لم يمنع أصحاب الشأن، رغم وضوح النتائج والأسباب، عن مواصلة تبنّي «الموازنات المستنسخة». وهذا ما يدفع رئيس «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» عبد الحليم فضل الله، إلى التذكير بمسألة أساسية: «نحتاج إلى إطار ضريبي جديد في لبنان يؤسّس لنظام موحّد يكفل العدالة والكفاءة والفاعلية، فيتّسم بالتصاعدية ويضمن إمكانية الجباية بأكلاف منخفضة، ويحقّق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية».
المدخل لهذا الأمر يكمن في تعديل بنيوي في إعداد الموازنة لتكون على أساس «الأداء الشامل» أو «موازنة أداء»، بدلاً من الوضع الحالي، أي أن تكون موازنة صندوق. «هذه بداية الطريق باتجاه ردم بعض أبرز الفجوات» وفق فضل الله. فقد كرّست الموازنات المتعاقبة غياب العدالة الضريبية، وهو المبدأ الأساسي الذي يهدف إلى توزيع العبء الضريبي بما يتناسب مع القدرة الاقتصادية لكل فرد أو شركة، بحيث يسهم كلّ دافع ضرائب بما يعكس إمكاناته.
إلا أنّ كون الحكومات أسيرة التركيبة السلطوية التي تسعى إلى تجديد نفسها بمعزل عن مجتمعها، يدفعها إلى اعتماد الضرائب غير المباشرة لتعزيز الواردات، ما يؤدّي دائماً إلى إصابة الطبقة الوسطى الدنيا والطبقة الفقيرة. يستدلّ على ذلك من أنّ «إيرادات الموازنات السابقة ارتكزت على الضرائب غير المباشرة التنازلية التي تطاول عموم اللبنانيين، ونسبتها تصل غالباً إلى ثلثي الإيرادات» وفق الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة كريم ضاهر.
وفي هذه الموازنة لم تظهر إشارات لتصحيح المسار في الموازنة المعروضة اليوم، إذ أنها تعتمد أكثر على تدابير هدفها توسيع القاعدة الضريبيّة للمكلّفين وزيادة معدّل الامتثال. وهذا برأي راشد ما يتطلّب إعادة بناء شاملة للهيكل الضريبي لأنّه لا يستند إلى مقاربات سليمة، إذ تُوضع الضرائب أو تُعدَّل من دون دراسات جدوى أو تبرير علمي لمعدّلاتها على الأفراد والشركات.
ويشير ضاهر إلى أنه قبل الحديث عن أي زيادة أو استحداث ضرائب جديدة، يجب على الدولة تحصيل مستحقّاتها السابقة وفق قانون الإجراءات الضريبية، وبما يشمل المكلّفين المتخلّفين والمكتومين وأصحاب الكسّارات والمقالع والمَرامل التي تُقدّر مستحقّاتها وغراماتها بما يفوق ثلاثة مليارات دولار.
كما يتوجّب متابعة شاغلي الأملاك العامة البحرية والنهرية وغيرها من الأملاك العامة، وإعادة تقدير المستحقّات القديمة وفق المعايير الجديدة وتحويلها إلى خزينة الدولة. كذلك، يجب تنفيذ المسح الشامل للمؤسّسات المسجّلة وغير المسجّلة وفق قانون الموازنة رقم 144/2019، لتتبع جميع المؤسسات غير الملتزمة، بدءاً من مشغّلي المولّدات غير الشرعية إلى شركات الإنترنت والكابل العشوائية وغير المرخّصة.
ولا مانع بالنسبة إلى ضاهر، من استحداث الضرائب التخصيصية على بعض الحالات المستجدّة بعد الأزمة، عبر إشراك فئات مستفيدة من المجتمع في عملية «المساهمة التضامنية» وخصوصاً الفئات المستفيدة من الوضع الذي استجدّ بعد انهيار العملة الوطنية واعتماد عدّة أسعار صرف للدولار.
عملياً، المطلوب قبل استنساخ السياسات السابقة، دراسة معمّقة لأصل فكرة الضريبة وآليات التطبيق في لبنان بما يتناسب مع حاجات المجتمع والاقتصاد.
لكن من المبادئ الأساسية مراعاة الطبقات الأقلّ قدرة. فالإصلاح الضريبي «ليس بيان نوايا، بل إعادة تأسيس ضريبيّة ونفقيّة مبنيّة على أهداف واضحة، وعدالة جبائيّة، ومكافحة صارمة للتهرّب، ومصارحة كاملة بكلفة الدين، ومن دون ذلك ستبقى كل الموازنات نسخاً مكرّرة بلا أثر». فما يظهر اليوم أنه يتمّ تغيير أرقام الموازنة سنوياً، لا أكثر ولا أقلّ، وتحت ذريعة زيادة الإيرادات، ستلجأ الحكومة مجدّداً إلى سياسات تفاقم الفقر وتعمّق التفاوتات الاجتماعية.