
كتب فراس الشوفي في الأخبار:
منذ وصوله إلى الحكم في دمشق عشية 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وضع الرئيس المؤقّت، أحمد الشرع، نصب عينيه مهمة إرضاء إسرائيل بأيّ ثمن. فالرضى الإسرائيلي، بحسب قناعة الشّرع ومستشاريه من البريطانيين والأميركيين والسوريين، هو المعبر الوحيد للحصول على الرضى الغربي والعربي الرسمي، والشرط الأوّل للحصول على المساعدات المالية المُفترضة. والأهم، أنه الضمانة الأقوى لتفادي أي عملية سياسية انتقالية ديمقراطية، وتثبيت حكم قائد «هيئة تحرير الشام» – إلى أمد غير محدّد – بأوراق التحالفات الخارجية، وعلى رأسها ورقة التحالف الإسرائيلي، في مواجهة خصومه الداخليين والخارجيين.
ومع سلسلة المشاريع التي أعدّها المستشارون للوصول إلى اتفاق تطبيع مع إسرائيل يرضي الشرعُ عبره الراعي الدولي والإقليمي، كان إعلاميو السلطة يعملون على الترويج للاتفاق على مدى 8 أشهر من عمر النظام الجديد، بينما يتّخذ الشرع سلسلة إجراءات أمنية وسياسية وإعلامية تؤكّد قيامه بالأدوار التي تفهم إسرائيل أنها تصبّ في مصلحتها. قلب الشرع خلال حكمه القصير، كل المعايير التي تلتزمها سوريا منذ عام 1948 تجاه إسرائيل. فالدولة السورية رسميّاً لم تعترف حتى الآن بإسرائيل، وتصفها في أدبياتها بالعدوّ والاحتلال، لكنّها تحوّلت فجأة في أدبيات الشرع ووزير خارجيته، أسعد الشيباني، إلى «الجانب الإسرائيلي»؛ وسقط الجولان السوري المحتل من بيانات الدولة الجديدة المفترضة، دبلوماسياً وإعلامياً. كما لم يرفض الشرع أو رجالاته، أي دعوة للقاء الإسرائيليين من أي جهة وسيطة أتت.
حتى إن جماعته باتت تعبث بتاريخ الصراع في المناهج الدراسية الجديدة، عبر تسخيف حرب أكتوبر 1973 التي ارتقى خلالها آلاف الجنود السوريين، مع تغييب دور سوريا في الدفاع عن لبنان إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. واهتمّ الشرع والشيباني كذلك، بعقد اللقاءات مع اليهود السوريين، وتشريع أبواب دمشق أمامهم جميعهم حتى الذين يحملون الجنسيات الإسرائيلية وأمام صحافيين إسرائيليين، والتواصل واللقاء مع عتاة الصهاينة وداعمي الاستيطان من الحاخامات في الولايات المتحدة.
وبينما تنشط قوات الأمن العام التي أنشأها الشرع منذ كان «أبو محمد الجولاني»، في مطاردة مهرّبي السلاح إلى لبنان وفلسطين داخل سوريا، كانت قواته تداهم مقرات فصائل المقاومة الفلسطينية التي لطالما اتخذت دمشق مقراً لها، لتصادر أسلحتها وتضيّق عليها وتعتقل بعض قادتها وتطردهم من العاصمة السورية.
كلّ هذه التقديمات المجانية والتنازلات لإسرائيل لم تشفع للشرع، حيث تظهر الأخيرة بعيدة كل البعد عن توقيع اتفاق تطبيع مع سوريا الجديدة، معاكسةً الضغوط الأميركية لتوقيع اتفاق أمني حتى، يحدّ من حركتها داخل سوريا. فإسرائيل التي لطالما وضعت تدمير الجيش السوري وتقسيم سوريا طائفياً وإثنياً هدفاً لها، لم تجد في الشرع ندّاً تحتاج معه إلى توقيع اتفاق سلام أو تطبيع لتفادي مواجهة محتملة على الجبهة السورية، مع كل ما يعنيه ذلك من أهمية سياسية لإسرائيل في تفكيك الموقف السوري التقليدي.
بل على العكس من ما تقدّم، تجد إسرائيل في الشرع زعيماً جهادياً يهرب من ماضيه ولا يجرؤ على مواجهتها، بينما هو مطوّق بزعماء جهاديين آخرين سوريين وأجانب وجمهور من المتطرّفين، يسعى فقط إلى الحفاظ على السلطة وتأمين الأموال والدعم الاقتصادي اللازم لتفادي الانهيار، من دون أن يملك قدرة على تنفيذ التزاماته.
وكرّست الأحداث في الأشهر الأخيرة، من غزوة الساحل في آذار إلى غزوة السويداء في تموز وما بينهما من صدامات مسلّحة مع قوات «قسد» على جبهات حلب والشرق السوري والقلاقل داخل المدن، عدم قدرة الشرع على توحيد السوريين تحت زعامته (في وقت شرّع فيه الطريق أمام إسرائيل لتلعب دور «حامي الأقليات»)، وكذلك عدم قدرته على إقناع غالبية السوريين بالتطبيع مع الكيان، في حال وصل مسار المفاوضات الحالية إلى هذه النتيجة.
وبينما لا يزال الشرع يطمح إلى تفاهمات مع العدو، لا تخفي إسرائيل أطماعها العلنية في سوريا، حيث أكّد رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، نية إقامة منطقة منزوعة السلاح جنوب سوريا، والعمل على فتح «ممر إنساني» نحو محافظة السويداء. وجاء كلام وزير حرب العدو، يسرائيل كاتس، حول نية إسرائيل الاحتفاظ بقمم جبل الشيخ، كردّ حاسم على كل الأفكار التي سوّقت لها الإدارة الجديدة عن العودة إلى اتفاق عام 1974 بين سوريا وإسرائيل.
إلّا أن عميحاي شيكلي، وزير الشتات الإسرائيلي، ذهب بعيداً في 29 آب الماضي، حين نشر صورة تجمع أمير قطر والرئيس التركي وصورة قديمة للرئيس السوري، عندما كان لا يزال مبايعاً لتنظيم «القاعدة»، معلّقاً عليها بعبارة «محور الشر الجديد الذي يجمع تصوّرين توسعيين جديدين: العثمانية الجديدة التي يقودها إردوغان، وفكرة الخلافة السلفية التي يقودها قائد تنظيم القاعدة في سوريا والإخوان المسلمون في قطر. وأي شخص لا يرى ويفهم هذا، لا يفهم التطرف الإسلامي أو الشرق الأوسط».
هذه الأفكار تجاه سوريا، يعكسها السلوك العسكري والأمني والسياسي الإسرائيلي، إذ تكرّس إسرائيل عسكرياً حضورها عبر إنشاء عشرات المواقع داخل الأراضي السورية على طول امتداد هضبة الجولان المحتلة نحو أعماق القنيطرة ودرعا وريف دمشق، وعلى قمم جبل الشيخ وسفوحه الشرقية، وشنّ عشرات الغارات البرية الشهرية داخل الجنوب وعشرات الغارات الجوية من الجنوب إلى حلب وإدلب واللاذقية، التي تستهدف مخازن للسلاح ومراكز تحكّم وسيطرة ومواقع محتملة يطمح الأتراك إلى الانتشار العسكري فيها وأماكن تجمّع للمقاتلين الأجانب.
وفي الآونة الأخيرة، كثّفت إسرائيل من تركيزها في السويداء على تطوير حركة نقل الدعم عبر المروحيات إلى المجموعات التابعة للشيخ حكمت الهجري، والدفع نحو توحيد المجموعات المسلّحة في كلّ أنحاء المحافظة ضمن جسم عسكري واحد، ودعم الإدارة المحلية التي شكّلها الهجري خلال الشهر الماضي. وفي الوقت نفسه، أجبرت إسرائيل قوات حكومة دمشق على سحب كل القطع الثقيلة المتبقّية حتى جنوب العاصمة إلى شمالها، وبدأت أوّلاً بالمدرّعات، ولم تنته أخيراً بالسيارات الرباعية الدفع التي تحمل الرشاشات الثقيلة، والتي استهدف الطيران المُسيّر بعضها قبل أن تضطر وزارتا الدفاع والداخلية السوريتان إلى سحبها إلى خلف خطوط النار التي حدّدتها إسرائيل.
كذلك، نجحت إسرائيل في تغيير موقف الموفد الأميركي، توم برّاك، الذي لم يعد يتحدّث عن النظام المركزي في دمشق، ما يعني حصول قسد على جرعة قوّة إضافية في وجه حكومة الشرع، بينما يتكفّل مكتب برّاك بإقناع الدروز بالاكتفاء بالإدارة الذاتية والتوقّف عن مطالبة حكومة دمشق بتغييرات جوهرية في بنية النظام. ويكشف الاتفاق الذي أعلنت تفاصيله الخارجية السورية، أمس، في الأردن، خلال مؤتمر صحافي بين الشيباني، ووزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، وبرّاك، خضوع الشرع للشروط الإسرائيلية ــ الأميركية بسحب السلاح الثقيل من الجنوب، وسحب القوات المركزية من الحدود الإدارية للسويداء، ومنح شبه إدارة ذاتية للمحافظة تستفيد عبرها من الخدمات الحكومية من دون قدرة الحكومة على فرض سيطرتها عليها.
ومع ذلك، لا يظهر أن الهجري ومعه إسرائيل في وارد القبول ببعض البنود، ولا سيّما تعيين مسؤول عن الأمن تابع لدمشق، علماً أن الداخلية السورية استبقت إعلان الاتفاق بتسمية الشيخ سليمان عبد الباقي كمسؤول عن الأمن في المحافظة، وهو ما ترفضه الغالبية في السويداء بسبب قرب عبد الباقي من السلطة المؤقّتة.
أمام هذه الوقائع، تظهر إسرائيل مستغنية عن توقيع اتفاق تطبيع مع الشرع لا يمنحها شيئاً، في الوقت الذي تمنحها فيه الظروف وموازين القوى فرصةً للتوسّع والهيمنة الكاملة على سوريا وقضم أراضيها ومواردها في الجنوب. وبينما تزيد تل أبيب من تغوّلها العسكري غير آبهةٍ بعروض الشرع، لم يجد الرئيس المؤقّت سوى تلاوة بيت من الشعر في قمّة الدوحة ينشد المواجهة، فيما هو يمنّي النفس بلقاء نتنياهو بعد 10 أيام، كتتويج لنجاح وحيد مُفترض من زيارته إلى الأمم المتحدة في نيويورك.