سوريا

رفع تسعيرة الكهرباء نحو 70 ضعفًا: الشرع ينقلب على وعوده للسوريين

كتب فراس الشوفي في الأخبار: 

تجرّأ الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، على ما لم تجرؤ على فعله مباشرةً الحكومات المتعاقبة في لبنان والعراق المجاورَيْن على مدى العقود الماضية، إذ رفع تعرفة الكهرباء والخبز أضعافاً مضاعفةً من دون سابق إنذار. وفيما يطول الحديث عن ملفّ الغذاء في سوريا، التي لطالما شكّل فيها القمح العمودَ الفقري الغذائي للسوريين، إلّا أن قرارات وزارة الطاقة في الحكومة المؤقّتة، الصادرة أول من أمس، تستحقّ الاهتمام، بعدما جاءت مفاجئةً للجميع، خصوماً وأصدقاء، وحتى لأكثر المراقبين والخبراء تشاؤماً من سياسات الإدارة السورية الجديدة.

ودأبت هذه الأخيرة، منذ وصولها إلى الحكم في كانون الأوّل الماضي، على إطلاق الوعود الوردية في ملفّ الطاقة؛ إذ تحدّث المسؤولون السوريون، في الشهر نفسه، عن قرب وصول بواخر تركية لتوليد الكهرباء. ثم أعلن وزير الكهرباء في حكومة تصريف الأعمال، عمر شقروق، أن ساعات التغذية ستتضاعف من 4 إلى ما بين 8 و10 ساعات يومياً خلال شهرين فقط. غير أنّ هذا الوعد بالكاد تحقّق، حتى بعد تدفّق الغاز الأذربيجاني عبر تركيا مطلع آب.

وقبل أن يتمكّن السوريون من التنعّم بزيادة التغذية، وعلى أبواب الشتاء، فوجِئوا بزيادة مهولة في التعرفة. وبحسبة أوليّة، يظهر أن الفارق بين تسعيرة الكهرباء القديمة وتلك التي أعلنتها وزارة الطاقة السورية لا يقلّ عن 70 ضعفاً، إذ ارتفع سعر الكيلوواط الساعي في التعرفة السابقة للشريحة الأولى (استهلاك ما دون 300 كيلوواط خلال شهرين، لذوي الدخل المحدود) من 10 ليرات سورية إلى 600 ليرة، أي ما إجماله 180,000 ليرة.

على أن هذه الشريحة تسمح للمستهلك المنزلي، بافتراض توفّر الكهرباء 24 ساعة يومياً، باستهلاك 200 واط في الساعة الواحدة، وهو ما يكفي لتشغيل برّاد صغير وبضعة مصابيح فقط في الوقت نفسه، من دون أي استخدام لأدوات كهربائية أخرى، بما في ذلك سخّانات المياه أو الغسالات أو أجهزة التكييف والتدفئة، أو حتى معدات المطبخ، علماً أن السوريين باتوا يعتمدون على هذه المعدات بشكل حيوي منذ أن رفعت الإدارة الجديدة أسعار أسطوانات الغاز من 20,000 إلى نحو 150,000 ليرة. أمّا خارج شريحة «محدودي الدخل»، فستصبح تعرفة الكهرباء للمنازل 1,400 ليرة للكيلوواط الواحد.

وبالمقارنة مع فترة النظام السابق، كانت هناك عدّة شرائح للاستهلاك المنزلي: الشريحة الأولى (حتى 600 كيلوواط) كانت بتعرفة تبلغ 10 ليرات فقط للكيلوواط الواحد. أمّا الثانية (من 601 إلى 1,000 كيلوواط) فكانت بتعرفة تبلغ 25 ليرة. بمعنى أن الاستهلاك المنزلي المتوسط، المُقدّر بحوالي 1,000 كيلوواط، كان يكلّف نحو 16,000 ليرة في عهد النظام السابق، بينما سيكلّف اليوم نحو 1,180,000 ليرة، وذلك بافتراض التقنين الشديد، وأن العائلة السورية لن تستهلك أكثر من 16 كيلوواط يومياً.

وبذلك، تكون نسبة الارتفاع في التعرفة حوالي 73 ضعفاً. ولوضع الأرقام في سياقها، فإنّ هذه الفاتورة الوسطية تعادل تقريباً متوسّط الراتب الشهري، البالغ نحو مليون ليرة لموظفي القطاع العام، علماً أنّ الحد الأدنى للأجور في سوريا بات 837,000 ليرة اعتباراً من الأوّل من آب. ومع ذلك، أكّد وزير الاقتصاد والصناعة السوري، محمد نضال الشعار، في 7 آب، أن نسبة البطالة تتجاوز 60%.

ما سبق يعني أنّ العائلة السورية النموذجية – أي أكثر من 90% من العائلات – ستواجه خيارات قاسيةً للغاية. فالاستحمام بالماء الساخن، مثلاً، سيتحوّل إلى مخاطرة مالية حقيقية. وبحسب خبراء في الطاقة، تتطلّب عملية تسخين المياه، في أكثر أجهزة التسخين توفيراً للطاقة، نحو 800 واط في الساعة على الأقل، وتستغرق ساعتين إلى ثلاث ساعات. أما استخدام معدات المطبخ الكهربائية بدلاً من أسطوانات الغاز، فبات مخاطرةً أكبر. ومن شأن ذلك أن يؤدّي، بكل تأكيد، إلى تجاوز ما تسمّيه الإدارة الجديدة «شريحة ذوي الدخل المحدود».

ولم يقتصر رفع أسعار الكهرباء على الاستخدام المنزلي؛ إذ صدرت التعرفة الجديدة عبر قرارين شملا مختلف أنواع الاستهلاك الكهربائي، بما في ذلك الصناعي بكل مستوياته، والتجاري، والزراعي، وحتى تعرفة جرّ المياه. وبعد أن كانت التعرفة تُراوِح بين 800 و1,200 ليرة لمختلف الفعاليات، باتت اليوم تُراوِح بين 1,400 ليرة للخطوط الخاضعة للتقنين، و1,800 ليرة للخطوط غير الخاضعة للتقنين. وستؤدّي التعرفة الجديدة إلى رفع تكلفة مختلف نواحي المعيشة للمواطن السوري؛ فمن محلّ البقالة الصغير إلى الصيدلية وعيادة الطبيب وصولاً إلى الورشات والمطاعم، ستتضاعف فاتورة الكهرباء بنسبة تُراوِح بين 100 و200%، ما سيضطر أصحاب هذه الفعاليات إلى تحميل الأعباء المالية الجديدة للمستهلك النهائي.

أمّا الزيادة الأخطر في التعرفة الكهربائية الجديدة، فجاءت من نصيب القطاع الزراعي، الذي كانت تعرفته سابقاً تبلغ 900 ليرة فقط. وتكمن خطورة رفع التعرفة في أنها جاءت بعد إلغاء دعم المحروقات عن القطاع الزراعي، وذلك بعد أيام فقط من سقوط النظام السابق، الأمر الذي ضاعف فاتورة المحروقات بالنسبة إلى المزارع السوري بخمسة أو ستة أضعاف ممّا كانت عليه قبل عام واحد، في حين ارتفعت فاتورةُ الكهرباء بمقدار الضعفين، علماً أن الكهرباء والمحروقات أصبحتا عنصرين حيويّين في الأنشطة الزراعية، ولا سيّما لأغراض استخراج المياه الجوفية، بعدما غدا الجفاف أمراً معتاداً، بعد أن كان حدثاً موسمياً نادراً في السابق.

على أن المستفيد الوحيد من التعرفة الجديدة، هم كبار الصناعيين الذين كانوا يحصلون على الكهرباء من دون تقنين وبتسعيرة بلغت 2,500 ليرة؛ إذ تمثّل التعرفة الجديدة بالنسبة إليهم تخفيضاً بنحو 25%. وتشمل قائمة هؤلاء الصناعيين، بشكل رئيس، العاملين في مجال صهر الحديد، وهم قلّةٌ من رجال الأعمال الذين كانوا من المحظيّين في عهد النظام السابق، ومن ضمنهم رجل الأعمال (م. ح)، وتمكّنوا من الحفاظ على امتيازاتهم في العهد الجديد.

وبالنسبة إلى عموم السوريين، يُرجّح أن تشهد الأشهر المقبلة ضغوطاً معيشيةً غير مسبوقة. فالعائلة السورية «السعيدة الحظ»، التي يكون ربّاها موظّفين، سيبلغ دخلها نحو مليوني ليرة شهرياً، لكنّها ستدفع ما بين 40 و50 ألف ليرة يومياً لاستخدام وسائل النقل العام، وأكثر من ذلك في حال وجود أبناء يحتاجون إلى المواصلات أيضاً، علماً أن تعرفة «الميكرو» تبلغ حالياً 10 آلاف ليرة من أغلب أحياء دمشق إلى منطقة البرامكة، التي تُعدّ المحطة الرئيسية في العاصمة، والتي يحتاج المواطن إلى الانتقال منها إلى وجهته التالية، ثم العودة مساءً بالطريقة نفسها.

وللحصول على ربطة أو ربطتين من الخبز يومياً، ستنفق هذه العائلة «السعيدة الحظ» ما بين 6,000 و12,000 ليرة، وفق التسعيرة الجديدة التي أُعلن عنها منذ أيام. أي إنّ إنفاقها الشهري على المواصلات والخبز فقط سيُراوِح بين 1,060,000 و1,240,000 ليرة، يُضاف إليها نحو مليون ليرة كلّ شهرين، أي ما يعادل نصف مليون شهرياً بالمتوسّط، مقابل التعرفة الكهربائية الجديدة. وهكذا، فإنّ هذه العائلة التي تمتلك مصدري دخل، سيكون عليها في الوقت الحالي أن تتدبّر كلّ تفاصيل معيشتها الأخرى – من الغذاء إلى الأدوية والإيجار والملبس – بنحو ربع مليون ليرة شهرياً، أي ما يعادل تقريباً 21 دولاراً أميركياً وفق سعر الصرف الحالي في أسواق دمشق.

أمّا إذا كانت العائلة تملك مصدر دخل واحداً، فهذا يعني أنها ستُنهي الشهر وهي مدينة بنحو نصف مليون ليرة. وبدوره، يتطلّب خيار تركيب ألواح الطاقة الشمسية وبطّاريات الليثيوم، استثمار عدّة آلاف من الدولارات من قبل العائلة الواحدة، وذلك في ظلّ غياب شبه تامّ لمصادر الاقتراض أو أنظمة التقسيط. وبذلك، حتى الحلول التي يُفترض أن تُخفّف الأعباء المالية، باتت تتطلّب توافُر رؤوس أموال أولية، وهي رفاهية لا تملكها الغالبية الساحقة من السوريين.

والجدير ذكره، هنا، أن ما سبق من تفصيل للأرقام مستوحى ممّا كانت تنشره المواقع الإعلامية المعارضة للنظام السوري السابق عند كلّ رفع للتعرفة الكهربائية، على الرغم من أنّ الزيادات آنذاك كانت من مرتبة الليرات فقط – كما حدث في شباط 2024 حين رُفعت التعرفة من ليرتين إلى 10 ليرات للكيلوواط الواحد ضمن شريحة تبلغ 600 كيلوواط.

وعلى أيّ حال، ينبغي التوضيح أنّ رفع التعرفة الكهربائية اليوم أمرٌ لا مفرّ منه، بعد التدمير الواسع الذي تعرّض له قطاع الطاقة في سوريا، سواء نتيجة الأعمال الحربية المتبادلة، أو بسبب عمليات التخريب والسرقة المتعمّدة. وتُعدّ «محطة زيزون» الحرارية في ريف حماة الشمالي خير مثال على ذلك؛ فالمحطة التي كلّف بناؤها 500 مليون دولار في تسعينيات القرن الماضي، تعرّضت للتفكيك في أواخر عام 2015 على أيدي المقاتلين التركستان المنضوين اليوم تحت فرق الجيش السوري الجديد. ولم يتوقّف هؤلاء قبل أن يُجهزوا على المحطة بالكامل في أيار 2020، حين فجّروا برج التبريد العملاق الخاصّ بالمحطة لبيعه خردةً معدنية.

ولا بدّ من التذكير أيضاً بأنّ وزارة الطاقة تنوي إدخال نظام العدّادات المُسبقة الدفع إلى سوريا مطلع العام المقبل، إذ تخطّط لتوزيع نحو 6.5 ملايين عدّاد، يُرجّح أن مصدرها تركيا. ويُشار إلى أن هذا النظام غير معمول به في أيّ دولة عربية، بل استلهمته الإدارة الجديدة من النموذج التركي، الأمر الذي من شأنه أن يضع أعباء جديدة على غالبية المواطنين السوريين الذين سيتعثّرون في الدفع المُسبق في ظل شحّ المداخيل وتكاثر الأعباء على كاهلهم. ويأتي هذا علماً أنّ تركيا، التي مدّت خلال السنوات الماضية شبكات لبيع الكهرباء في المناطق التي تسيطر عليها شمال سوريا، تبيع الكهرباء للسوريين بسعر يزيد بمقدار مرّة ونصف مرة عمّا تبيعه للمواطنين الأتراك داخل أراضيها.

إلى ذلك، من المُتوقّع أن تبدأ انعكاسات القرارات الأخيرة لوزارة الطاقة السورية بالظهور بين منتصف شباط المقبل وبداية آذار؛ إذ ستكون فواتير شهرَيْ تشرين الثاني وكانون الأوّل جاهزةً للتحصيل في منتصف شباط تقريباً، ليُدرك السوريون عندها حجم المبالغ الهائلة التي ستترتّب عليهم، قبل أن تصلهم مجدداً فواتير شهرَيْ كانون الثاني وشباط في مطلع أيار، من دون أن يتمكّنوا من الاعتياد أو ترشيد الاستهلاك. ويأتي ذلك فيما اختارت الإدارة الجديدة توقيتاً سيئاً للغاية لرفع الأسعار، مع بداية فصل الشتاء الذي يعتمد فيه السوريون على الكهرباء لتعويض الارتفاع الكبير في أسعار وقود التدفئة.

ومساء أمس، بدت رسالة وزارة الطاقة للسوريين واضحة على لسان مدير الاتصال في الوزارة، أحمد سليمان، الذي قال إنّ «الكهرباء ستُقطع عن الرئيس والقصر الجمهوري في حال عدم دفع الفاتورة» وهي رسالة لن تُطبّق، بالطبع، سوى على عموم السوريين الذين قرأوا فيها معنى واحداً: إمّا أن تدفعوا أو أن تتجمّدوا من البرد والجوع. أمّا وزير الاقتصاد محمد الشعار فبرّر رفع سعر الكهرباء، بالقول إنها «كانت تُقدّم بأسعار مصطنعة»، مضيفاً أن «زمن الوعود الزائفة انتهى». غير أنّ الوعود الزائفة تبدو اليوم أكثر ما تبرع به الإدارة الحالية، ووعد تحويل سوريا إلى «سنغافورة» شاهد على ذلك. بل إن الشرع رفع منسوب طموحاته ووعوده للسوريين، متخلّياً عن النموذج السنغافوري طمعاً بتحويل دمشق إلى طوكيو الشرق، كما صرّح في منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض، قبل أيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى