تضخيم إسرائيلي لإنجاز بدء التفاوض
تثير مقاربة تل أبيب الرسمية والإعلامية لاتفاق الإطار حول بدء التفاوض غير المباشر على ترسيم الحدود البحرية مع لبنان أكثر من علامة استفهام، وربما أيضاً أكثر من «استهجان». إذ كان لافتاً التعامل مع الإعلان كأنه اتفاق أنهى النزاع البحري وما يليه بين الجانبين، وامتداد لاتفاقات التطبيع الخليجية مع العدو.
الىارز أيضاً من تل أبيب، وهو ما شدّد على نقيضه رئيس مجلس النواب نبيه بري أمس، تأكيد العدوّ، على لسان وزير خارجيته غابي أشكنازي، وكذلك وزير الطاقة يوفال شتاينتس الذي سيقود التفاوض غير المباشر مع لبنان، أن المفاوضات بين الجانبين ستكون مباشرة، الأمر الذي يثير أكثر من علامة استفهام ويفرض التشكيك في أهداف «القبول» الإسرائيلي – الأميركي بالشروط اللبنانية لبدء المفاوضات، التي شدّد الرئيس بري على أنّها غير مباشرة. فهل يراد إسرائيلياً من هذه المقاربة خدمة أجندة أوسع وأكثر شمولاً من مسألة ترسيم الحدود، التي تعدّ في الواقع مسألة تقنية، لا يفترض أن لها تداعيات تتجاوزها؟
أيضاً، هل تتعلق هذه المقاربة التي لم تتحدد وجهتها النهائية بعد، بدعم ومساندة إسرائيلية للرئيس الأميركي دونالد ترامب في معركته الانتخابية المتأرجحة عبر توفير مادة ترويج لنجاح جديد في سياسته الخارجية؟ ما سبق باشرته إدارته بالفعل عبر تصريحات بلهجة احتفالية تطبيعية للإعلان عن بدء المفاوضات، بحسب ما ورد على لسان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. وهل ثمة شرط ضمني جرى التفاهم عليه بين الحليفين، الإسرائيلي والأميركي، لتسهيل بدء التفاوض غير المباشر في تماشٍ مع المطلب اللبناني؟ علماً بأن مروحة الفرضيات تتّسع، لأكثر من فرضية متطرفة، ربطاً بحساسية رفض التفاوض المباشر لدى الجانب اللبناني.
وكانت «إسرائيل»، عبر وزير الطاقة يوفال شتاينتس، قد أعلنت بشكل رسمي أمس بدء «التفاوض المباشر» مع لبنان حول الحدود البحرية. وقال شتاينتس في بيان إن «إسرائيل ولبنان سيبدآن مفاوضات مباشرة بوساطة أميركية لتحديد المياه الاقتصادية بينهما». وأضاف «هدفنا هو إنهاء الخلاف حول ترسيم حدود المياه الاقتصادية بين إسرائيل ولبنان من أجل المساعدة في تنمية الموارد الطبيعية لمصلحة جميع شعوب المنطقة».
وحسب ما شدد عليه شتاينتس، فإن «المفاوضات كما تقررت وفقاً للجهود الأميركية المبذولة، وبما يشمل الوساطة الأميركية والإطار التقني لعملية التفاوض بين الجانيين، تم الاتفاق عليهما بناءً على رغبة من إسرائيل وموافقتها».
بدوره، وصف وزير خارجية العدوّ غابي أشكنازي، المحادثات المقبلة مع لبنان بأنها خطوة مهمة، معرباً عن شكره لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ولطاقمه على «جهودهم المتفانية»، جرّاء ثلاث سنوات من الاتصالات الدبلوماسية التي أدت إلى بدء «المحادثات المباشرة» مع لبنان، لتحديد خط الحدود البحرية بينه وبين «إسرائيل». وقال: «لم تكن المفاوضات ممكنة لولا وساطة الولايات المتحدة». وفيما «انفلشت» تقديرات أشكنازي للآتي، أعرب عن اعتقاده بأن «المفاوضات مع لبنان خطوة مهمة ومن شأنها التأثير بشكل كبير جداً على استقرار المنطقة».
مصادر إعلامية إسرائيلية (القناة 20 المقرّبة من رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو)، وبأسلوب استعراضي يشير الى تحقيق تل أبيب إنجازاً سياسياً واقتصادياً، أوردت أنه في «اجتماع عقد قبل أسبوعين برئاسة وزير الطاقة وكبار المسؤولين في وزارته، وبمشاركة مسؤولين من مكتب رئيس الوزراء ومسؤولين عن وزارة الخارجية ووزارتي العدل والدفاع، اتفق المجتمعون على الشروط الإسرائيلية للمفاوضات، في حين أن الاختراق بين الجانبين، إسرائيل ولبنان، سجل بالفعل بعد تحديد الشروط الإسرائيلية بوقت قصير، خلال زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر. وها هي المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل تبدأ بعد عطلة عيد العرش (اليهودي) في مقر قوة اليونيفيل في بلدة الناقورة اللبنانية».
وعلى خلفية «انفلاش» العناوين والتصريحات الرسمية، طلبت القناة 13 العبرية «التروي قليلاً»، مشددة في تقرير لها أمس، على أن «المفاوضات بين إسرائيل ولبنان محصورة بالخلاف حول المياه الاقتصادية، ولا يوجد هنا اتفاق سلام بين الجانبين كما حصل مع الإمارات والبحرين». واستندت القناة إلى كلام الرئيس نبيه بري النقيض لما يُروَّج في تل أبيب، للقول: «لنهدأ قليلاً. ما يحدث ببساطة جداً أن هناك مفاوضات بوساطة أميركية ستبدأ بشأن ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية للجانبين، والمسألة لا تتعلق بقضايا أخرى ولا سلام ولا اتفاقات سلام».
وعن موقف حزب الله من التفاوض، شددت القناة على «وجود موافقة ضمنية من جانبه، إلا أن هذا لا يعني»، وفقاً لتقرير القناة نفسها، «تغييراً يتعلق بالتوتر في الشمال. فالقصة برمّتها لا تعني شيئاً بالنسبة إلى حزب الله الذي يقول إن إسرائيل هي العدو. لا يوجد أيّ تغيير، وإنما فقط مسار تفاوضي متعلق بالخلاف حول المياه الاقتصادية».
لا يتخيّلنّ أحد أن «إسرائيل» كانت لتفاوض لبنان، وتمتنع عن فرض إرادتها بالقوة العسكرية، لولا سلاح المقاومة
في عيّنات المقاربة الإعلامية التي تتطلّع الى ما وراء المفاوضات البحرية، تقرير صحيفة «هآرتس» التي شددت على أن المسؤولين «في الولايات المتحدة يأملون أن يؤدي الاتفاق بشأن الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، الى مسار تفاوضي بين الجانبين، بما يتجاوز الحدود البحرية، الأمر الذي يأتي بالتوازي مع الحملة الأميركية الإسرائيلية الواسعة النطاق لإضعاف قوة حزب الله، بما يشمل أيضاً موقعه السياسي».
وتكشف الصحيفة، وهو ما صمتت معظم وسائل الإعلام العبرية والتعليقات عن الإشارة إليه، الى أنه «لا نية لدى إسرائيل وكذلك لدى لبنان، في أن ينشغلا في هذه المرحلة بالحدود البرية بينهما، وبالنقاط 13 الخلافية على هذه الحدود»، الأمر الذي أكده لاحقاً ديفيد شينكر في حديث مع قناة «كان» العبرية، إذ قال إن «للخلاف البري قناة منفصلة»، من دون أن يفصّل في ذلك.
انتصار منطق المقاومة
مع ذلك، ورغم كل المقاربة الإسرائيلية التي يمكن تفسيرها في أكثر من اتجاه، مع استعجال إسرائيلي للاستثمار المفرط بعد الإعلان عن اتفاق إطار التفاوض غير المباشر بين الجانبين، فإن البدء بالتفاوض يعدّ من ناحية «إسرائيل» مباشرة الحل الأمثل من ناحيتها، بعدما عجزت عن فرض إرادتها باللجوء الى القوة، لتعذّر ذلك، أو كما كانت العادة، الاكتفاء بالتلويح بالقوة لتحقيق المكاسب.
في الواقع، ما تروّج له «إسرائيل»، وتجهد كما يتّضح في الترويج له، هو الخيار الآخر البديل، الذي يحمل في طيّاته، وهو كذلك، تراجعاً إسرائيلياً لا يتساوق مع التوجهات والاستراتيجيات الإسرائيلية المبنية على فرض الإرادات بالقوة أو التهديد بها.
طوال السنوات الماضية، وهو ما ترد إشاراته من تل أبيب عبر مسؤوليها العسكريين والسياسيين وكذلك في وسائل الإعلام، يعد الخلاف البحري مع لبنان نقطة ضعف إسرائيلية أمام لبنان، وهو ما أقرّ به الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة، وتحديداً تقلّص قدرته على حماية منشآته الاقتصادية في عرض البحر على اختلافها، نوعاً ومسافة عن الحدود مع لبنان، في حال تحوّل الخلاف الى نزاع مسلح مع حزب الله.
والأمر نفسه ينسحب، وهو مصدر قلق دائم لدى تل أبيب، على نزاع مسلح مع حزب الله على خلفيات أخرى غير بحرية، وهو بطبيعة الحال قابل ومن شأنه الامتداد بداهة الى استهداف المنشآت البحرية الإسرائيلية الواقعة في المنطقة «المتنازع عليها مع لبنان» أو بالقرب منها. وفي الفرضيّتين، لا قدرة للجيش الإسرائيلي على حماية منشآته البحرية، مع – أو من دون – قدرة إسرائيلية مقابلة على إيذاء لبنان.
هو واحد من إنجازات وجود سلاح لدى المقاومة، وتحديداً السلاح النوعي الذي تشكو منه إسرائيل بلا انقطاع. وهو إنجاز متحقق، حتى من دون استخدامه الفعلي. في تخصيص السلاح المتطور لدى حزب الله للوجهة الدفاعية، يكون السلاح قد حقق هدفه بمجرد امتلاكه، وخاصة أن العدو يدرك أن إرادة استخدامه للدفاع، أو للرد لأهداف دفاعية، موجودة لدى قيادة المقاومة.
كيفما اتفق، ومن جديد، لا يتخيّلنّ أحد أن «إسرائيل» كانت لتفاوض لبنان، وتمتنع عن فرض إرادتها بالقوة العسكرية، لولا سلاح المقاومة. كانت كما هي العادة في الماضي، تفرض الإرادة السياسية والاقتصادية بالقوة من دون تردد، أو أقل من ذلك، بالتهديد باستخدام القوة لتحقيق الأهداف.
يبقى على المفاوض اللبناني، في تفاوضه غير المباشر، مع تفهّم الجميع صعوبة التفاوض بوجود وسيط غير محايد، أن يدرك قوة أوراقه التفاوضية وأهميتها وحضورها لدى مفاوضيه، من الأميركيين والإسرائيليين.
الأخبار _ يحيى دبوق