عربي و دولي

ظاهرة “الببي يزم” في المجتمع الإسرائيلي.. كيف أصبح نتنياهو ملكاً؟

ترك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وربما اللاحق، بنيامين نتنياهو خلفه أرضاً محروقة بعد تركه كرسي رئاسة الوزراء، وتسبب بتصريحاته وسلوكياته في تدهور الخطاب الإسرائيلي العام، وازدياد التحريض والانقسام بين قطاعات واسعة من الإسرائيليين، وسعى لتشويه سمعة من لا يتفق معه، بما في ذلك الإعلام والصحافيون.

حاول أيضاً إسكات كل من اختلف معه ونزع الشرعية عنه، وقسّم المجتمع الإسرائيلي بين “نحن” و”هم” (أي كل من اختلف معه)، واعتاد أن يلدغ ويؤذي حتى أشد أصدقائه والمقربين منه.

وقد أخضع نتنياهو الخزينة العامة لاحتياجاته الشخصية، وهاجم رجال الدولة الذين عيّنهم لحماية “المصلحة العامة” لأنهم تجرأوا على انتقاده ودعم التحقيقات الجارية ضده، وقدّم العشرات من التعهدات والوعود لأصدقائه ومنافسيه، ولم يفِ بأيٍّ منها مطلقاً، ولا عجب في أن أغلب رجال النظام السياسي الإسرائيلي لا يؤمنون مطلقاً بوعوده.

يمكننا الافتراض، من وحي ما شهدناه من موقعه كزعيم للمعارضة، وإن لفترة قصيرة جداً، أنه استمر في سلوكه هذا، فكورال أعضاء الكنيست في الليكود استمر بالهتاف له، وسار الجمهور من أنصاره على خطاه في زيادة تلويث الخطاب والنظام السياسي.

وبحسب بعض المعارضين، “أدخل نتنياهو في السياسة الإسرائيلية أعرافاً فاسدةً سيتعين على النظام السياسي الإسرائيلي أن يعمل بجد للتخلص منها”، فقد قدم نتنياهو الاعتبارات الشخصية، وأثبت خلال سنوات توليه منصب رئاسة الوزراء أنه “يفرض قيوداً على الجميع”، ويستبعد احتياجات الدولة لمصلحة احتياجاته الشخصية.

كما جرّ نتنياهو “إسرائيل” إلى 5 حملات انتخابية خلال 3 أعوام ليتمكن فقط من البقاء في السلطة، ودأب على التحريض وتلويث الخطاب طوال فترة ولايته، واتهم صديقه وربيبه نفتالي بينيت بأنه “مصاب بجنون العظمة، ولديه رغبةٌ غير محدودة في السلطة، وأنه مستعدٌ لبيع البلاد”.

وخرج وأعضاء “الليكود” قبيل تشكيل الحكومة الحالية في فورة غضب ضد بينيت، وضغط ناشطو اليمين على أعضاء الكنيست اليمينيين، ونظّموا تظاهرات أمام منازل بينيت وشاكيد ونير أورباخ وعيدت سيلمان لحملهم على عدم الانضمام إلى الحكومة الجديدة.

وامتدّ تحريض نتنياهو ضد وسائل الإعلام، وواصل مهاجمة تلك التي تنتقده، باستثناء وسائل الإعلام اليمينية التي غالباً ما تتملقه وتجري معه مقابلات في كثير من الأحيان، وحاول على مر السنين التدخل والتأثير في وسائل الإعلام المختلفة.

واليوم، وفي إثر نتائج انتخابات كنيست الاحتلال الخامسة والعشرين، ترجح إمكانية عودة بنيامين نتنياهو بعد 12 عاماً متتالية رئيساً للوزراء مرةً أخرى، فكيف تعاظمت ظاهرة “البيبوية” أو “الببي يزم” (نسبةً إلى ببي نتنياهو)، وتجذّرت في الخطاب الإسرائيلي العام وبين الوزراء وأعضاء الكنيست في الليكود والكتل اليمينية؟

هناك مقولة قديمة تقول: “إن سلة مهملات التاريخ ملأى بأناس لا يمكن تعويضهم”. ومع ذلك، فقد بثت الصحف في “إسرائيل” ووسائل إعلامها بصورة متكررة رسالةً مفادها: “في هذا الوقت بالذات” لا بديل من بنيامين نتنياهو، فما سرّ “الكاريزما” التي يتمتع بها “ببي” في مواجهة خصومه؟ وما الذي يمكن أن يقدمه هو، ولا أحد غيره، للإسرائيليين؟

بات من الصعب في الآونة الأخيرة قراءة صحيفة أو مشاهدة التلفاز من دون سماع بعض المعلقين الذين يجتهدون في إقناع الجمهور الإسرائيلي أنه “لا يوجد بديلٌ من نتنياهو في الوقت الحالي”، والسبب: “لا يوجد أحدٌ في المعارضة ينظر إليه كقائد”. ويجادل البعض في “إسرائيل” بأن أيديولوجية اليسار والوسط هي ببساطة غير مقبولة لدى غالبية الإسرائيليين، فيما يشير آخرون إلى “كاريزما” نتنياهو كرئيس للوزراء، مقارنةً بسخافة يائير لبيد وليونة بيني غانتس.

يعرّف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر “الكاريزما” بالمعنى الحديث بقوله: “إن القائد الكاريزمي هو الشخص الذي يحترمه مستمعوه بسبب فضيلة خاصة يعتقدون أنه يتمتع بها، إما القداسة الإلهية وإما قدرة القيادة غير العادية التي يصعب تفسيرها بالكلمات، لكن الكاريزما في الممارسة العملية هي صفةٌ “تبادلية”، أي تفاعلٌ بين القائد وجمهوره. وقد يبدو الشخص الذي يعتبر شخصاً كاريزمياً لجمهور معين سخيفاً بالنسبة إلى جمهور آخر، أي أن “جاذبيته” قوية جداً في جمهور معين لأن صفاته الخاصة تلبي احتياجات هذا الجمهور ومشاعره وحساسيته، ولكن بالتأكيد ليس لدى جمهور آخر تختلف قيمه، ولا يحتاج إلى ما يقدمه لهم”.

إذاً، مرةً أخرى، ما سرّ “كاريزما” نتنياهو؟ وكيف يلبي رغبات قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، حتى أولئك الذين ليسوا من بين معجبيه؟ لا بدَّ للإجابة عن هذا التساؤل من الاقتباس من رسالة وجهتها تسيبي ليفني، المنافسة السياسية اللدودة لنتنياهو في حينه، إلى جورج دبليو بوش، الرئيس الأميركي آنذاك، خلال زيارته “لإسرائيل”، إذ قالت مخاطبة إياه: “أن تكون يهودياً يعني أن تحلم بالهولوكوست، وأن تعيش في الهولوكوست، وأن تموت في الهولوكوست، من دون أن تكون هناك. أن تكون طفلاً إسرائيلياً يعني أن تحاول تخيل الرقم 6 ملايين من دون أن تفهم ما هو. أن تكون أماً في إسرائيل هو أن تكتشف بدهشة أنك قد نقلت الذاكرة الجماعية وتجربة الهولوكوست إلى أطفالك. أن تكون قائداً يهودياً في إسرائيل هو أن تفكر، فيما لو كنت هناك، كيف كنت ستتخذ القرار الصحيح في الوقت المناسب. افهموا حجم المسؤولية، وأقسموا قبل كل شيء بألا تنسوا”.

وقد تمثّل نتنياهو بالضبط هذا المعنى في سلوكه السياسي كـ”قائد” إسرائيلي، وفهم أن عليه ألا ينظر إلى المستقبل في محاولة لإيجاد فرصة وأمل فيه. هذا الشعور بالعيش في زمن كارثي هو من سمات غالبية القيادة الإسرائيلية الحالية، وربما كان هذا نتاج نجاح “التوعية بالهولوكوست” وتلقين الشعب عقيدة الشعور “بالضحية”، حيث تختلط صورة “الضحية” بالفعل بشكل لا يمكن تمييزه مع ما يسمى “مفهوم الأمن”.

إنّ سرّ “كاريزما” بنيامين نتنياهو أو “الهدية” التي يقدمها للإسرائيليين هي القدرة المذهلة على ترجمة هذه “الضحية”، التي ترى كل صيحة على أنها “تهديدٌ وجودي”، إلى سياسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الأمن، فنتنياهو هو الشخص الذي يتقن التلاعب للحفاظ على الوضع الراهن “وتحصين الجدار وحماية شعب إسرائيل من محيط التهديدات”.

الإجماع الذي يقطع المعسكرات السياسية في “إسرائيل” هو أنَّ الشعب اليهودي يسير على حبل دقيق، ومحاطٌ بمخاطر وجودية جمّة قد تقوده إلى معسكر أوشفيتز مرةً أخرى! فمن الشرق بحرٌ هائج من “الإرهاب الفلسطيني”، وخلفه جحيم القنبلة الإيرانية، ومن الغرب أمواج البحر.

ولا يستمدّ نتنياهو قوته من قدرته على التعامل مع هذه الأخطار مطلقاً، فالحرب على الاتفاق النووي مع إيران فشلت فشلاً ذريعاً وفقاً للمعايير التي وضعها نتنياهو ذاته، و”الحلول” التي قدمتها حكومات نتنياهو المتعاقبة للشعب الفلسطيني عنوانها “الأمن” ومحاربة “الإرهاب”، ولم تكن في جوهرها إلا سلسلةً من العناوين البراقة الموجهة بالأساس إلى وسائل الإعلام.

وبالتالي، فإن نتنياهو لا يصنع “رأسماله السياسي” من خلال محاولة حل المشاكل، بل العكس، من خلال تحويلها جميعاً إلى “تهديدات وجودية”، فإن لم توجد، فإن عليه السعي باستمرار للبحث عنها، كالقنبلة النووية الإيرانية، و”داعش”، وفي الآونة الأخيرة أيضاً “النازية الفلسطينية”، ومقارنة الفلسطينيين بالنازيين و”داعش” ليسا من قبيل المصادفة، فهذه هي القوى التي تمثل الشر المطلق لمعظم الناس في العالم، ولا يوجد شيء للمناقشة والجدل حولها، وهي تشكل تهديداً، ليس “لإسرائيل” فحسب، بل للثقافة الغربية الحديثة أيضاً.

وإذا كان خصوم اليهود “فظيعين للغاية”، وكان من المستحيل النهوض والقضاء عليهم لأسباب عملية، فعندئذ يكون الحل الوحيد الممكن هو “التضخيم” واعتماد سياسة “اجلس ولا تفعل”. وإذا كان الحال كذلك، فلا فائدة ترجى إذاً من تغيير القيادة، فنتنياهو الذي يتحدث باستمرار عن “التهديدات” ينظر إليه بطبيعة الحال على أنه الشخص الأنسب للتعامل معها.

في الواقع، في المناخ السياسي الإسرائيلي الحالي، قد يجد أي زعيم يقترح حلولاً جريئة ومبتكرة لمشاكل “إسرائيل” الأساسية أن هذا عملٌ غير مجدي، بل وخطر من الناحية السياسية، فعلم النفس البشري يميل إلى تأجيل النظر في الأخطار البعيدة، وإلى تكثيف التهديدات القريبة.

وفي المجتمع الإسرائيلي الذي شكّلته سنوات من الانتفاضات المتتالية والرشقات الصاروخية ومبادرات السلام الفاشلة والعداء الدولي المتزايد، أصبح التهديد الوجودي حجر الزاوية في وعيه. هذا التضخم في الخطاب هو ما يميز سلوك نتنياهو، وهو بالضبط ما جعله فزاعة وسائل الإعلام التي حولته إلى إيقاع صوتي خاص بها.

إنَّ البحث في ظاهرة “الببي يزم” تقتضي أيضاً محاولة الوصول إلى أعماق عقول وروح هولاء الأشخاص الذين يطوفون أنحاء “إسرائيل” مجهزين بالعدة والعتاد وبكميات لا حصر لها من الكراهية، لنشر رسالة “التخوين”، ورفض قبول الآراء المختلفة، وإقصاء أيّ شخص يجرؤ على رفع يده أو صوته ضد “ببي”.

هذه الرسالة التي يطوف بها هؤلاء تلاحق كلّ سلوك يقوم به خصوم نتنياهو، فالمفاوضات مع لبنان حول المياه الاقتصادية، “تخلت إسرائيل فيها عن كل شيء، وسلمته لنصر الله، وإعادة الغاز إلى حزب الله، سيلحق العار بإسرائيل”.

وبسبب بعض صواريخ الجهاد الإسلامي، تنحني “إسرائيل” كذلك لمدة 3 أيام. هذا حقاً استسلامٌ “للإرهاب”. إنه سعىٌ محموم لتضخيم الرواية الخيالية حول انطواء “إسرائيل” المخزي في جميع القطاعات، والاستسلام “للإرهاب”، والتخلي عن الثوابت الاستراتيجية “للدولة”.

ببساطة، يعتقد دعاة “الببي يزم” أن نتنياهو هو الحاكم الأوحد في الكون بأسره، وكل ما سواه مؤامرة، وكل ما يجري في “إسرائيل” هو فسادٌ قانوني لنظام يريد إطاحة رئيس وزراء كان ولن يتكرر ثانيةً. تجذرت صورة “بيبي الملك” في خطاب اليمين واشتد في السنوات الأخيرة توصيفه بـ”ملك الملوك، أشجع الأبطال، حكيم الصالحين، أنبل الرجال، وبحكمته اللامحدودة يحرسنا ويحمينا”!

وبذلك، أصبح بنيامين نتنياهو، في نظر أتباعه، “ملكاً” محصناً من الانتقاد، وتمتلئ وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية الإسرائيلية بإشارات لا حصر لها إليه كملك، وتستخدم هذه الصورة لتؤثر في الخطاب والوعي والواقع في الشارع أكثر بكثير مما يبدو.

إنه الوقود الذي يشعل الصراع بين المعسكر الذي يؤمن بضرورة اتباع “الملك” وكأنه إله، وأولئك الذين هم على قناعة بأن المواطنين الإسرئيليين يجب أن يدافعوا بأجسادهم عن الديمقراطية والحرية.

وعلينا أن لا نغفل أنه لطالما وجد في “اللاوعي اليهودي” نوعٌ من الملكية، فداوود وسليمان شخصيات نموذجية في الثقافة لآلاف السنين. وعزّزت الصهيونية العلمانية وصف هرتزل بـ”ملك اليهود”. وفي الصراع الحالي، يبدو أن “النظام الملكي” يجيب عن شوق اليمين لقائد قوي: “وأب يحمينا، وعلينا حمايته”!

وحتى في الماضي القريب، غنى الإسرائيليون اليمينيون، ورددوا “بيغن ملك إسرائيل”، و”أريك ملك إسرائيل”، لكنّ “كاريزما” شارون وبيغن لم تحركا في أنصارهمها المشاعر التي يثيرها نتنياهو “الملك” لدى أنصاره؛ ففي حالته، هو يمثل، بالنسبة إليهم، الحقيقة الوحيدة في “وجوده ذاته”، ولا يمكنه أن يخطئ لارتباطه باللاهوت، والخلاصة أنْ لا مكان لانتقاد أفعاله أو أقواله.

وتتحدث وسائل إعلام إسرائيلية عن أنَّ من حوله يغذون هذه “الصورة” قدر الإمكان، ويتداولون كيف أنه “لا ينام، ولا يأكل، ويعمل بوتيرة غير معقولة”. إنه “حاكمٌ جبار مسؤول عن إمبراطورية عسكرية واقتصادية، مثل الملك سليمان تماماً!”.

يقدّم النظام الملكي اليمني في “إسرائيل” حلاً بسيطاً، فنتنياهو “ملك”، وبالتالي يمكنه أن يفعل ما يشاء، وقد أرسله الله. لذا، إن أفعاله تمثل عدلاً كاملاً. وعندما تقرر الأغلبية أنّ رئيس الوزراء لا يمكن المساس به لأنه يتربع على رأس “نظام طبيعي” تحت حماية الله، فإنها تقضي على إمكانية إجراء مناقشة عامة حول سلوكه، وينظر إلى كل من ينتقده على أنه يخلّ بالنظام الطبيعي. وبالنسبة إلى أولئك الذين يؤمنون بهذا الأمر، فإنَّ أيّ انتقاد هو تهديد يجب إسكاته بالشتائم عبر الإنترنت، وفي الشوارع إذا لزم الأمر، أو بمهاجمة المتظاهرين أيضاً بشغف ينبع من الحاجة إلى حماية “الملك”.

من الواضح لمؤيدي نتنياهو وخصومه أنّ “الملك بيبي” سيبقى في الذاكرة الإسرائيلية لسنوات طويلة، والسؤال هو: بأيّ ثمن؟ ومن سيدفعه؟ إن هؤلاء يغيبون أفكارهم وشخصياتهم المستقلة لمصلحة فقاعة “الببي يزم” التي تسكن العقول والأرواح وتبقيها في حالة تنويم مغناطيسي، فحب “الملك” أهم بكثير لدى هؤلاء من حب “المملكة” حتى لو قاد إلى إشعال النار فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى