خنق المعابر «غير الشرعيّة»: هذه طُرُق أجدادنا
يشتكي أهالي البقاع الشمالي من الحملة على «المعابر غير الشرعية»، التي لطالما كانت للأهالي لتوفير بعض الأموال من السلع الرئيسية السورية في سوق حمص. ومع أن المعابر تكاد تختنق منذ أكثر من سنة، يستمر فريق الأميركيين في البلاد بالتجنّي على سوريا والجيش اللبناني وأهالي الهرمل
فالعاصي ليس نهراً فحسب، بل سبيل الحياة من البقاع الشمالي إلى شمال محافظة حماه في قلب سوريا، مروراً بالهرمل والقصير وحمص. وهو لم يعر اهتماماً يوماً لحدود «سايكس بيكو»، بل كان دائماً رافداً للحياة الواحدة بين محافظة بعلبك ــ الهرمل ومحافظة حمص التي تُؤمِّن لسكان الهرمل، ولآلاف اللبنانيين الذين يعيشون في قرى حوض العاصي داخل الأراضي السورية، ما عجزت (أو ترفض) الدولة اللبنانية عن تحمّل مسؤولياتها تجاههم، منذ «ضمّ الأقضية الأربعة» إلى لبنان.
أمّا «هناك» في جبل لبنان وبيروت، فينهمك رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ونوّابه، ومثلهم نواب الحزب التقدمي الاشتراكي وشخصيات بقايا قوى 14 آذار، بالتغريد والتصويب على ما يسمّى «المعابر غير الشرعية»، وتحميلها المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة التي تعيشها البلاد.
وهذه المعزوفة ليست جديدة أصلاً. فالإطباق على الحدود السورية ــ اللبنانية بالكامل كان هدفاً أميركياً ولا يزال، منذ الانسحاب السوري في العام 2005، في مشروع متكامل بدأ يتّخذ أشكاله الواضحة مع تشديد العقوبات على سوريا، ومحاولات خنقها من الحدود العراقية واللبنانية والأردنية، وحرمان المقاومة من عمقها الاستراتيجي.
لكنّ حملة اليوم من الأميركيين وفريقهم في لبنان، يميّزها «التجنّي» على سوريا، كما على الجيش اللبناني وأهالي المنطقة، بهدف التعمية على توقيت «أزمة الدولار» الحالية الحقيقية، والعقوبات والضغوط الأميركية. فمنذ أن استقر الوضع الأمني في محافظة حمص عموماً والجرود الشرقية للبنان، اتخذ الجيشان اللبناني والسوري على جانبي الحدود إجراءات ميدانية عديدة لضبط عمليات التهريب على كامل الحدود الشمالية ــ الشرقية، مع أن ضبط الحدود كاملةً بين أي دولتين في العالم أمر مستحيل، فكيف بين لبنان وسوريا.
في منزله الواقع تماماً فوق الحدود اللبنانية ــ السورية وتشطر الحدود أرضه إلى نصفين، يؤكّد علي (اسم وهمي)، وهو أحد أبرز المهرّبين في المنطقة، أن الجيش اللبناني عمّم على الأهالي، أن المعابر غير الشرعية، التي تُعدّ بالمئات، خلافاً لرقم الـ 136 معبراً الذي شاع في الأشهر الماضية، «باتت مغلقة اليوم ويُمنع مرور أي بضائع عليها».
وما يقوله علي، يمكن رؤيته بالعين المجرّدة خلال جولة بسيطة في السيارة بموازاة الحدود، مع ملاحظة الانتشار الكثيف للجيش اللبناني و«القوة المشتركة» المشكّلة من الجيش وقوى الأمن الداخلي والجمارك والأمن العام اللبناني، والدوريات على الحدود في الهرمل، من القاع شرقاً إلى جبل أكروم غرباً (ينتشر في المنطقة فوج الحدود البرّي الثاني)، ومن أكروم إلى البحر غرباً (ينتشر هناك فوج الحدود البرّي الأول).
في منزل علي، يوجد شقيقه إيهاب، الذي يشير إلى أن القوات السورية بدورها عزّزت انتشارها على المقلب الآخر من الحدود، ونقلت إليها العديد من قوات الهجانة والفرقة الـ11 والفرقة الرابعة وعشرات الحواجز للأجهزة الأمنية السورية.
أحد السكّان في بلدة حوش السيد علي، والذي يبعد بيته أمتاراً قليلة عن الحدود «المفترضة»، يؤكد أن الجيش اللبناني أزال جسراً بدائياً قبل أيام من فوق «ساقية» المياه الصناعية التي تشكّل حدوداً بين البلدين، وتمتد من سدّ «حيرة» في بلدة الحوش التي تقسمها الحدود إلى نصفين تقريباً، كان يستعمله الأهالي للتنقل سيراً على الأقدام أو على الدراجات ولنقل بعض الحاجيات الأساسية من أطعمة وألبسة. ويذكر أن الجيش اللبناني أزال أكثر من مرّة جسوراً حديدية أو خشبية «عابرة للحدود»، في المنطقة المحيطة ببيته .
الإطباق على الحدود السورية ــ اللبنانية بالكامل كان هدفاً أميركياً ولا يزال
أزمة التهرب الجمركي التي يحاول الساسة إلباسها للمعابر غير الشرعية، لا يمكن أن يكون سببها تهريب كميات محدودة من الخضار والبيض والأسمدة والملبوسات إلى الداخل اللبناني، والتي تباع أصلاً لذوي الدخل المحدود، في مقابل المليارات التي تُهدر في المرافئ والمعابر الشرعية.
وفي الواقع، لا يصيب إغلاق هذه المعابر إلّا أهالي المنطقة، الذين لم ينقطعوا عن أسواق حمص والقصير منذ عقود، تماماً كما لم ينقطع أجدادهم عنها على مدى قرون. بالنسبة إلى الأهالي، فإن سوق حمص يوفّر على جيوبهم المتعبة، ويقيهم شرّ العوز من أسعار المأكولات والمشروبات والثياب في السوق اللبناني. ولا يكاد يخلو بيت من بيوت البقاع من الأدوية السورية، التي استمر السوريون في بيعها للبنانيين كما السوريون، موفّرة أموالاً طائلة على البقاعيين.
زائر الهرمل وحوض العاصي هذه الأيام يسمع غضباً عارماً من الأهالي بسبب النتائج التي عكسها إغلاق المعابر على حياتهم اليومية، وعلى الوضع الاقتصادي المزري في هذه البقعة المنسية من البلاد. فهذه المعابر بالنسبة إليهم هي تعويض عن «قطع الحياة» الذي حصل مع سايكس ــ بيكو خلال القرن الماضي، وطريق اعتادوا سلوكها منذ ألف عام على الأقل.
الشاب حسن، يبلغ من العمر 18 عاماً، يعمل في فرن للمناقيش في الهرمل، ويتابع تعليمه في إحدى ثانويات المحافظة، بينما يعيش مع أهله في وادي العاصي داخل الأراضي السورية. لا يتخيّل حسن أنه اليوم سيكون مضطراً إلى التوجّه إلى المعبر الرسمي في القاع، للعبور إلى قريته اللبنانية، مستهلكاً أكثر من ساعة من وقته صباحاً وأكثر من ساعة مساءً، بينما كان بإمكانه العبور فوق جسرٍ والوصول إلى بيته في غضون دقائق. حسن ليس وحده من يعاني في عائلته الصغيرة، فشقيقه جندي في الجيش اللبناني يخدم في طرابلس، ويقطن أيضاً مع زوجته وأولاده خلف الحدود، بينما يدرس أبناؤه الصغار في مدارس الهرمل. وهذه المعاناة، التي لا يقيم لها اعتبار دعاة حملات التحريض على الحدود، تقع على كاهل 30 ألف لبناني ينتشرون في أكثر من 15 قرية في الداخل السوري، بينها سبع قرى لبنانية بالكامل، وعلى اللبنانيين الذين يملكون مشاريع وأراضي زراعية في أراضيهم داخل الحدود السورية. فهؤلاء يتلقون من الدولة السورية التعليم المجاني والدواء بأسعار السوريين والكهرباء، رافعين عن الدولة اللبنانية كلفة العناية بهم، ومع ذلك، تقفل الأخيرة الطريق عليهم نحو البلد الذي يحملون جنسيته. أما اللبنانيون الذين يملكون المشاريع الزراعية في الأراضي السورية، فخسائرهم ارتفعت في الأشهر الماضية إلى مستويات تهدّد أشغالهم بالاستمرار، مع التضييق الذي تعاني منه بضائعهم على المعابر وحواجز الجيش اللبناني في البقاع، لا سيّما حاجز حربتا، إذ إن العديد من الحمولات يتمّ احتجازها بشبهة التهريب، لا سيّما الخضروات، وهي لمواطنين لبنانيين في أرض لبنانية تقع خلف الحدود السورية، وأحياناً تتلف قبل أن يتمّ التأكد منها وإطلاق سراحها، بعد أيام من احتجازها على الحواجز.
لا يمرّ يوم لا يقوم فيه الجيش اللبناني بإزالة جسور حديدية أو خشبية «عابرة للحدود»
الشكوى هنا في حوض العاصي على لسان الجميع، من رؤساء البلديات والمخاتير إلى المواطنين العاديين. لكن ما لا يقوله هؤلاء، يقوله أكثر من مهرّب التقت بهم «الأخبار» في الهرمل، إذ يسأل المهرّبون العاطلون من العمل، كيف يمكن للدولة اللبنانية أن تضبط صغار المهرّبين، لكنّها تترك نائبين على الأقل من تيار المستقبل في الشمال يعملان بالتهريب إلى الداخل السوري، بما يكبّد خزانتي البلدين خسائر فادحة. وعلى ما تشير المعلومات، فإن الأجهزة الأمنية السورية أوقفت في طرطوس، قبل نحو أسبوعين، شاحنة تحمل «بضاعة» مهرّبة تتبع لأحد نواب المستقبل في عكّار.
—
8 معابر رئيسية
تضم المنطقة الممتدّة من مشاريع القاع إلى جبل أكروم على الحدود الشمالية للبنان مع سوريا، ثمانية معابر رئيسية غير شرعية، وهي من الغرب إلى الشرق: معبر قنافذ بين جرد بلدة القصر وجرود أكروم، معبر العريض ــــ القصر، معبر مطربا ــــ القصر، معبر ناصر الدين، معبر حوش السيد علي، معبر العميرة، معبر المشرفة، ومعبر مشاريع القاع. وتنتشر حواجز الجيش على هذه المعابر، فيما تنتشر عدّة حواجز للجيش السوري في المقلب الثاني من الحدود على كل معبر. في الآونة الأخيرة، خُنقت هذه المعابر بنسبة 95% على ما يقول أكثر من مصدر أمني. أما باقي المعابر، فهي كناية عن طرق للمشاة أو للدراجات النارية في القرى المتداخلة، وهي تبلغ العشرات في تلك البقعة، ويمرّ عبرها اللبنانيون الذين يعيشون في الأراضي السورية وبعض السوريين، وهي أيضاً مرصودة من قبل الجيش اللبناني وتطلّ عليها مواقع عسكرية. يعاني أهالي المنطقة اليوم مع إغلاق المعابر، من طول المسافة التي يحتاج إليها الوصول من الهرمل إلى داخل الأراضي السورية عبر المعبر الرسمي. إذ يبعد معبر القاع عن الهرمل حوالى عشرة كيلومترات، بينما يبعد المعبر عن بلدة القصر حوالى 15 كلم، ويبعد المعبر عن القرى اللبنانية داخل سوريا ما لا يقلّ عن 20 كيلومتراً. أي أن لبنانياً من الهرمل يحتاج إلى عبور 5 كيلومترات من خلال المعبر «غير الشرعي» ليزور والديه (اللبنانيين) في إحدى قرى حوض العاصي السورية، بينما يحتاج إلى ما لا يقل عن 35 كيلومتراً عبر معبر القاع «الشرعي». وفي الآونة الأخيرة، بات الأهالي يطالبون بفتح معبر رسمي جديد في بلدة القصر (الهرمل)، علّه يساهم في الحدّ من معاناتهم.
الأخبار _ فراس الشوفي