حرب الذهب في الحرب بين روسيا والناتو في أوكرانيا
إذا كان الدولار قد احتلَّ أهميته في النظام المالي والنقدي للرأسمالية العالمية والأميركية على وجه الخصوص كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية، فإنَّ حرب الذهب التي تشعلها روسيا والصين، والتي تظهر اليوم في المشهد الخلفي للصراع الميداني بين روسيا والناتو في أوكرانيا، من شأنها أن تؤدي دوراً مهماً في تأسيس نظام عالمي جديد.
يرمز الذهب إلى حرفين (Au)، وهما اختصار لمقطع لاتيني (أوروم) (الفجر المتوهج)، ويستمد أهميته من أنه لا يتأكسد ولا يذوب إلا في الماء الملكي (مركب حمضي)، وقد يوجد نقياً بعد تصنيعه من دون مخالطة أي معدن (24 قيراط). أما في مواده الأولية، فغالباً ما يوجد مع الفضة أو النحاس أو الرصاص، وتعد جنوب أفريقيا وروسيا (جبال الأورال) وكندا وأميركا (جبال روكي) أهم مناطق استخراجه الرئيسية.
أما تاريخ استخراجه، فيعود إلى النوبة المصرية قبل أن تظهر حمى الذهب على دفعتين إبان صعود البرتغال وإسبانيا، ونهب أميركا الجنوبية والمكسيك، ثم في كاليفورنيا ومنطقة إلدورادو. وقد تشكلت حول مناجم الذهب إمبراطوريات ودول ومدن، من النوبة، إلى الآشوريين في العراق، إلى البرتغال وإسبانيا، إلى كاليفورنيا وسان فرانسيسكو الأميركية، وملبورن في أستراليا.
وإضافة إلى دوره السياسي المذكور، فقد استخدم الذهب في أغراض متعددة، من الحلي التي تستهلك أكثر من نصف ذهب العالم، إلى السبائك في الأنظمة المالية والنقدية، إلى العلاج الإشعاعي، إلى المساهمة في تطوير الصناعات الإلكترونية ابتداءً من الترانزستور.
الذهب ونظام النقد الدولي
في دراسة مهمة من سلسلسة “كتاب الوعي”، استعرض فتحي محمد سليم تطور نظام النقد الدولي وموقع الذهب فيه ضمن 3 مراحل:
الأولى: نظام القاعدة الذهبيّة (مستمدة من قاعدة عامة للسلوك والمعاملة بالمثل) التي تعني التداول الحر لقطع المسكوكات الذهبية للأفراد والجماعات على حد سواء، لكنها تحتاج إلى كفالة قانونية بين الوحدة النقدية ومعدن الذهب الصافي.
بدأ هذا النظام في القرن التاسع عشر واستمر حتى العقود الأولى من القرن العشرين، عندما بدأت مؤشرات انهياره بسبب استنزاف الحرب العالمية لموارد الذهب وتدفق كميات كبيرة منها إلى أميركا البعيدة عن ميادين الحرب، وذلك تسديداً لثمن مشتريات عسكرية وغيرها، وكذلك بسبب أزمة سنة 1929.
الثانية: نظام الصرف بالذهب الذي تلا الحرب العالمية الثانية، والذي كرسته اتفاقية “بريتون وودز” التي أنيطت بصندوق النقد الدولي والإدارة الأميركية عملياً. ولم يعد يسمح بحسب هذا النظام للأفراد والهيئات بطلب الذهب في مقابل الأوراق النقدية من المصرف المركزي إلا لعملة واحدة هي الدولار الأميركي.
لكن هذا النظام، شأن النظام الذي سبقه، سرعان ما اصطدم بأزمة النظام الرأسمالي العالمي مجدداً، وخصوصاً أزمة الدولار، ما أدى إلى إصدار ما يعرف بحقوق السحب الخاصة، وبإشراف صندوق النقد الدولي.
كان ذلك عام 1970، في عهد الرئيس الأميركي نيكسون، الذي أطاح الذهب لإطلاق الحرية الكاملة للدولار ومطبخه المعروف في البنك الفيدرالي الأميركي، الذي يخضع بالكامل لعائلة روتشيلد اليهودية. وقد ترافق ذلك مع احتدام الصراع الأميركي الفرنسي ومحاولات الرئيس ديغول العودة إلى نظام القاعدة الذهبية في مواجهة الدولار وهيمنته.
المرحلة الثالثة: تفرد الدولار وإلغاء نظام الصرف بالذهب يعتبر خرقاً أميركياً لاتفاقية “بريتون وودز” ونعياً لها منذ عام 1970، وكان من أخطر تداعيات ذلك إدراك أميركا أن مصالحها بالحفاظ على مكانة الدولار في الاقتصاد العالمي يتطلب هيمنة عسكرية وسياسية على العالم وإزاحة أي عقبة دولية، سواء كانت روسيا أو فرنسا (ديغول) أو الصين أو أي قوة إقليمية صاعدة.
وبدلاً من أن تصبح أزمة النفط عام 1973 عاملاً ضاغطاً على أميركا، تحوّلت بفعل “صفقة القرن” مع أكبر دولة نفطية عربية إلى ورقة بيدها، ولكن على الرغم من ذلك، ومن الانهيار السوفياتي أيضاً، فإن الرأسمالية العالمية، وعلى رأسها الرأسمالية الأميركية، لم تستطع السيطرة على أزماتها وأزمة النظام النقدي الدولي الجديد نفسه.
آفاق مستقبل الذهب
(1) إلى ما قبل “عار الثلاثاء” الأميركي، كان الذهب يواصل انهياره أمام الدولار، منذ أن أعلن الرئيس الأسبق نيكسون أن اتفاقيات “بريتون وودز” صارت برسم الموت البطيء عام 1970.
ومن المعروف أن الاتفاقيات المذكورة حافظت بالتدريج على دور ضئيل للذهب كمعادل عالمي في المنظمة العالمية النقدية واحتياطي البنوك المركزية. وكان الفرنسيون والروس والصينيون يميلون إلى كوتا ذهبية أعلى لم تفلح في البقاء حتى الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
وبدت نهاية الذهب صورة لما قاله أو اعتقده فوكوياما عن نهاية الأيديولوجيا والتاريخ على عتبات مركز التجارة العالمي في نيويورك. الغريب والمدهش أن انتعاش الذهب بعد زلزال مانهاتن سبقه اهتمام ملحوظ باحتياطي الذهب في أكثر من بلد، بينها روسيا والصين وفرنسا.
ينطلق هذا العرض الموجز من عدة فرضيات:
1- أنّ أسعار الذهب سترتفع، وأن انخفاض هذه الأسعار حالياً مبرمج من قبل جهات تسعى لشراء أكبر كمية منه، في مقدمة لرفع أسعاره لاحقاً. ونتذكر هنا ما جاء عن قوة الذهب اليهودي في البروتوكول الأول لحكماء صهيون، كما نتذكر فلسفة العجل الذهبي اليهودية وقول غوركي عن مدينة نيويورك “الشيطان الأصفر”.
2- أن روسيا، من خلال حرب الذهب هذه المرة، وليس من خلال الأيديولوجيا الاشتراكية، تسعى للنهوض كقوة دولية كبرى.
3- أن بداية الانهيار المالي الأميركي ترافقت مع ضرب البرجين في 11 أيلول/سبتمبر 2001، وارتفاع سعر الذهب بنسبة 30% بعد هذه الضربة لم يكن بلا معنى!
أما حكاية الذهب في التاريخ، فقد بدأت مع استبدال الخيل والبقر والفراء بالذهب والمعادن الأخرى، وتكرست مع الرأسمالية عبر القاعدة الذهبية، ثم قاعدة الصرف بالذهب بعد الحرب العالمية الثانية (اتفاقية بريتون وودز).
وكانت إسبانيا والبرتغال والمغامرون الأميركيون، إضافة إلى اليهود، أهم من اهتم بهذا المعدن قبل تراجعه أمام الاتفاقية المذكورة التي لم تصمد أمام ضغوط الإدارة الأميركية 1971، إذ قررت إدارة نكسون استبدال هذه القاعدة بالدولار (الذهب الورقي)، كما قرر صندوق النقد 1976 العدول عن الأسعار المكافئة المعبر عنها بالذهب وبداية تسييله.
وقد تعززت أهمية الدولار في مقابل الذهب مع تدفق الأموال إلى الولايات المتحدة، ما أدى إلى قيام البنوك والمؤسسات المالية الأميركية بتوسيع سياسة الإقراض الاستهلاكي، وخصوصاً العقارات والسيارات، في وقت كانت البضائع المستوردة تسيطر على السوق الأميركية، ما جعل الاقتصاد الأميركي مستورداً للأموال والبضائع معاً.
وكان على هذا الاقتصاد أن يخرج من أوهامه مع ارتفاع العجز في الميزان التجاري الأميركي وتحول أميركا إلى سوق للمنتجات العالمية.
ويلاحظ في هذه الفترة ظاهرتان:
الأولى: تقليص منتجي الذهب الكميات المطروحة للبيع في الأسواق العالمية وكأنهم ينتظرون انهياراً مالياً أميركياً.
والثانية: تحذيرات روسية تؤكد هذا الانهيار، وكذلك تحذيرات اقتصاديين أميركيين عن نهاية الفقاعة المالية (الاقتصادي باول كروجمان).
في هذه الظروف، جاءت ضربة البرجين في أيلول/سبتمبر 2001 لتزيد المخاوف الأميركية والعالمية، ما أجبر الإدارة الأميركية على خفض الفائدة لطمأنة المستثمرين، وأدى إلى زيادة القروض العقارية وتوسيع سوق السيارات، وأسس بالتالي للأزمة المالية الأخيرة كمظهر حاد من مظاهر المأزق البنيوي للرأسمالية عموماً.
(2) في مقابل انقسام الخبراء حول مستقبل الذهب، فإنَّ الزعيم الروسي، بوتين هذه المرة، وليس الزعيم الفرنسي الأسبق ديغول، هو الذي يخوض حرب الذهب، إذ تملك روسيا مخزوناً هائلاً من الذهب ومناجمه أيضاً في الأورال وسيبيريا، إلى جانب الصين وجنوب أفريقيا وأستراليا وكندا، بل إن بوتين أصدر مرسوماً مبكراً (عام 2000) باعتماد الذهب وسيلة تداول قابلة للادخار.
ولم تكن روسيا وحدها من قام بذلك، إذ قامت حكومة مهاتير محمد في ماليزيا بخطوات مماثلة، منها مشروع الدينار الذهبي، رداً على الدور التخريبي للملياردير اليهودي جورج سوروس، الأب الروحي لما يسمى مراكز الدراسات الخاصة ومنظمات حقوق الإنسان والنساء وحرية الصحافة في العالم الثالث، والذي عرف بمحاولته تحطيم النمور الآسيوية الاقتصادية، مثل ماليزيا عام 1997.
وإضافةً إلى البعد السياسي العام في اقتراحات ديغول وبوتين، فإن الذهب ملاذ آمن ضد سياسات العزل والحصار (المالية) ولتنويع المحافظ الاستثمارية. وقد أصبح قابلاً لتحقيق عائدات سنوية عند إقراضه من قبل البنوك المركزية، وهو أيضاً موجود بكميات كبيرة في البحار والمحيطات.
وكما يقول الاقتصادي الأميركي لاروش، فلا خيار للعالم سوى العودة إلى ربط العملات المحلية بنظام احتياط الذهب، فالمطلوب عنده التأكيد على العملات كأدوات سيادية لا كبضائع تباع وتشترى بحسب مزاج المضاربين الكبار ومصالحهم.
هذا على الصعيد العالمي. أما على الصعيد العربي، فيلاحظ الاقتصادي هنري عزام أن لبنان يحتفظ بأكبر كمية من احتياطات الذهب في المنطقة، ويمتلك أعلى نسبة من الذهب إلى عدد السكان في العالم، إذ تبلغ 62 أونصة للفرد (احتياط لبنان من الذهب 9 ملايين أونصة)، كما يلاحظ أن سياسة البلدان العربية عموماً هي سياسة خفض احتياطاتها من الذهب.
ورغم أنه لم يتوقع آنذاك صعود الذهب، ورغم أنَّ لينين قبله توقّع أن تبنى المراحيض من الذهب، فإنَّ الحرب الباردة الجديدة تأخذنا إلى حلبة غير مألوفة بين الدب الذهبي القادم من موسكو و”العجل الذهبي” في نيويورك؛ مدينة الشيطان اليهودي الأصفر، على حد تعبير غوركي.
(3) في قراءة مغايرة لبروتوكولات حكماء صهيون، وبعيداً من المبالغات السلفية التي ترى فيها مؤامرة يهودية كبرى على العالم، وكذلك بعيداً من الاستخفاف المبالغ فيه أيضاً من هذه البروتوكلات، فقد لاحظت نصاً غريباً يرن صداه هذه الأيام من دون أن يلفت الانتباه.
تحدث النص المذكور عن الذهب بصورة قريبة جداً لما نشهده اليوم فعلاً: “بناء نظام مالي ونقدي يقلل من أهمية الذهب في الظاهر، إذ نقوم (أي اليهود) بتكديسه بأسعار رخيصة، ثم نقوم (أي اليهود) برفع أسعاره في ظروف أخرى، وبما يسمح لنا (أي اليهود) بالسيطرة على النظام المالي النقدي العالمي”.
ولنتذكر أيضاً أن اليهود في ذلك الوقت الذي كتبت فيه البروتوكولات، وأياً كانت صحتها، كانوا يسيطرون على مفاتيح البيوتات المالية العالمية، ما يساعدهم على استبصارات حقيقية لما يمكن أن يكون عليه المشهد المالي والنقدي العالمي، كما لاحظ ماركس، وكذلك الروائي دوستويفسكي.
في أي حال، وبصرف النظر عن النص السابق في “بروتوكولات حكماء صهيون”، لاحظ الرئيس الفرنسي الأسبق ديغول أن أفضل معيار دولي لتجديد النظام المالي والنقدي العالمي بعد اتفاقية “بريتون وودز” التي أعقبت الحرب العالمية الثانية هو معيار الذهب، محذراً في الوقت نفسه من الخلط بين الدولار كعملة صعبة عالمية والدولار كعملة محلية أميركية، ما يعطي الولايات المتحدة ميزة كبيرة للسيطرة على النظام المالي والنقدي العالمي.
والغريب أن الولايات المتحدة الأميركية، وفي حين رفضت أفكار ديغول، واصلت تكديس الذهب لديها بعدما أسقطته، ما مكنها من شراء كميات كبيرة منه بأسعار متدنية… ومن الدول الأخرى التي فطنت لتكديس الذهب روسيا والصين وجنوب أفريقيا.
وليس مستبعداً أن تتحول سياسة اللجوء إلى الذهب في الأزمات الكبرى، على غرار الأزمة الدولية الحالية، إلى سياسة ثابتة يعود الذهب فيها إلى مكانته السابقة، كما اقترحها ديغول، ما يؤشر إلى احتمال عقد تسوية دولية أو اتفاقية بريتون وودز ذهبية جديدة، وهو ما يجعلنا نغامر بنصح الدول والأفراد على حد سواء بشراء الذهب وتكديسه، وخصوصاً أن العالم يسير من أزمة إلى أخرى، كما أنَّ الولايات المتحدة مرشحة إلى أن تفقد احتكارها كقوة كبرى وحيدة، وهو ما تؤكده أزماتها المتفاقمة.
إن ميزة الدولار، كعملة صعبة ومحلية في الوقت نفسه، تتحول إلى عبء حقيقي قد يزيحه قريباً عن عرش العالم الذي بدأ بالترنح قليلاً بعد تدمير برجي التجارة العالمية.