كتب حسان الحسن في الميادين:
في إثر الزيارة الأولى للرئيس العماد ميشال عون لسوريا، في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2008، بعد عودته من الإبعاد القسري عن لبنان، وضع “الجنرال” نصب عينه مشروعاً جديداً، ليس على مستوى لبنان فحسب، بل على مستوى المشرق (العراق، سوريا، فلسطين، الأردن، لبنان)، من أجل المحافظة على التنوع فيه، دينياً وإثنياً، وكي يبقى واحةً للتفاعل الحضاري بين مختلف مكوناته والعالم الأوسع، ولحماية هذا المشرق من التصحّر الفكري. وحمل هذا المشروع اسم “المشرقية”.
وانطلاقاً من إيمان عون بالرسالة المشرقية، التي تترجم مصالحته مع الطبيعة والتاريخ والجغرافيا، وبسبب ما يحمل من رؤى استراتيجية، كونه صاحب تجربةٍ كبيرةٍ في المجالين العسكري والسياسي، توجه إلى مسيحيي المشرق، في صورة خاصة، لأنهم مكوّن مشرقي أساسي، ودعاهم إلى التشبّث في بلادهم، وإلى المحافظة على هويتهم الحضارية، ودورهم الريادي في المشرق، والتفاعل مع مختلف قضاياه، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ثم الحرب على سوريا، وتهجير مسيحيي العراق، على سبيل المثال، لا الحصر.
وللغاية عينها، أي نشر الرسالة المشرقية وترسيخها لدى مسيحيي المشرق تحديداً، كان التيار الوطني الحر، الذي أسسه العماد عون، في طور استكمال مختلف الأعمال والنشاطات (عقد المؤتمرات والندوات وتنظيم زيارات…) الرامية إلى تحقيق هذه الغاية. ومن أجلها نظّم الزيارات للأماكن المشرقية المقدسة، كحوض معمودية السيد المسيح في نهر الأردن، وضريح القديس مارون (أبي الطائفة المارونية) في قرية براد الأثرية شمالي حلب في سوريا. غير أن بدء الحرب الكونية على سوريا، وهي قلب المشرق وعموده الفقري، حال دون استكمال هذه النشاطات.
ولأن الجغرافيا السورية هي جغرافيا مفتاحية، بالنسبة إلى شرقي المتوسط، وتقاطع المجالات الحيوية لعدد من الفضاءات الحضارية والجيو-بوليتكية؛ أي لديها “مناطق جغرافية حاكمة”، في خريطة هذا العالم، كونها تشكل معبراً طبيعياً في اتجاه ثلاث قارات: آسيا من جهة العراق، وأوروبا من جهة تركيا، وأفريقيا من جهة فلسطين – مصر. كذلك، فإن وزن سوريا وثقلها السياسي، يمثّلان ثقلاً تاريخياً، ولديها حوامل ثقافية وعروبية وإسلامية ومسيحية تمثّلها سوريا وتختزنها. لذا، تسعى الهيمنة الأميركية لضرب الموروث الثقافي والهوية، عن طريق ضرب الثقافة، وصولاً الى حال الهيمنة، من خلال سحب الهوية والانتماء من أفكار الشعوب وعقائدها. لذلك، تمثّل سوريا وصمودها، قضيةَ وجود في صمود هذا المشهد برمته. وهي التي واجهت ولا تزال تواجه المجموعات الإرهابية المسلحة.
وعلى صخورها تحطم “مشروع حكم التكفيريين” للمنطقة، الرامي إلى تفتيتها، وتغيير ديمغرافيتها، من خلال محاولة إلغاء التنوع في هذا المشرق، عبر تنفيذ أفظع العمليات الإرهابية فيه، لترهيب المواطنين ودفعهم إلى الهروب والهجرة، وبالتالي السعي لتغيير الوجه الحضاري لهذا المشرق. غير أن سوريا تصدت لهذا “المشروع التدميري”، وتمكنت من إفشاله.
فكانت بداية نهاية “مشروع الإرهاب” في معركة القصير الاستراتجية (ريف حمص الجنوبي – الغربي) في أيار/مايو 2013، والتي كان لها انعكاس على الأوضاع السياسية والميدانية في المنطقة، وتحديداً على الوضع الميداني في مدينة طرابلس في شمالي لبنان، وبعض القرى العكارية الواقعة عند الخط الحدودي بين لبنان وسوريا من جهة الشمال، والتي انتهت وظيفتها الإقليمية، كقواعد لإمداد المسلحين التكفيريين في الشطر الثاني من الحدود، بعد أن استعاد الجيش السوري السيطرة على القصير، ومنطقتي تلكلخ وقلعة الحصن في وادي النصارى في ريف حمص. وبعد نجاح الجيش السوري وحلفائه في استعادة هذه المناطق، كانت نهاية معاناة طرابلس، التي شهدت 21 جولة اشتباكٍ دامٍ بين أبنائها، في مناطق جبل محسن وباب التبانة والقبة والبداوي، على خلفية الحرب على سوريا، وإقحام طرابلس في هذه الحرب، كقاعدة إمدادٍ للمسلحين، بدليل توقيف الباخرة “لطف الله 2” في نيسان/أبريل من عام 2012، آتية من ليبيا ومحمّلة بالسلاح والذخيرة، قبالة شواطئ البترون في لبنان الشمالي، وهي في طريقها إلى مرفأ طرابلس، لتفريغ حمولتها، على أن يصار إلى تهريبها إلى الداخل السوري. هذا على سبيل المثال، لا الحصر.
وبعد ذلك، ساهم الجيش السوري، مع الجيش اللبناني والمقاومة اللبنانية، في تطهير سلسلة جبال لبنان الشرقية، من الخطر الإرهابي، الذي استهدف مختلف المناطق اللبنانية، بالانتحاريين والسيارات المفخّخة، مستهدفاً في صورة خاصة صيغة العيش الواحد والتنوع في لبنان، كما في سوريا، إلى أن تم استئصال الإرهاب من الجبال الشرقية في آب/أغسطس 2017 في عملية “فجر الجرود” التي نفذها الجيش اللبناني، بالتنسيق مع المقاومة اللبنانية.
إذاً، حافظت سوريا على التنوع في هذا المشرق، ودافعت عنه بكل إرادةٍ وعزمٍ وقوةٍ. وبذلت أغلى الأثمان في سبيل ذلك (مئات آلاف الشهداء والجرحى والشهداء الأحياء والمفقودين، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي الجائر التي تفرضه الولايات المتحدة وأتباعها على الشعب السوري).
وما دامت سوريا تشكل العمود الفقري للمشرق، وقلبه النابض، وعمقه الاستراتيجي، وما دامت تسير بخطىً ثابتةٍ نحو تحقيق نصرٍ استراتيجي، بعد استعادة الجيش السوري أغلبية أراضي بلاده، وبعد الانفتاح العربي المعلن وغير المعلن على دمشق، أضف إلى ذلك الاندفاعة التركية على “الشام”، فهل تبادر دمشق إلى إعادة تفعيل “المشروع المشرقي”، من الناحية السياسية، بعد أن حافظت عليه ميدانياً، وفي مواقع المسؤولية في الدولة، على رغم هول الترهيب والإرهاب، وفي ضوء تهجير الأقليات الممنهج من العراق وفلسطين؟ وهل تتلاقى مع صاحب الرسالة العماد عون، ويجمعهما الهدف عينه، بعد أن تحرّر من عبء مسؤولياته في الحكم، بعد انتهاء ولايته الدستورية، رئيساً للجمهورية؟