عادات رمضانية صنعت المشهد الرمضاني ومنحته طابعاً خاص
لا يقتصر شهر رمضان على كونه مناسبة دينية وموسماً للعبادة والذِّكر، فعبر قرون ارتبطت بهذا الشهر العديد من العادات والتقاليد عند مختلف الشعوب المسلمة، تنوّعت باختلاف الثقافة والبيئة، ورغم كل التحوّلات التي تعيشها المجتمعات المسلمة في الحياة الحديثة اليوم، لا تزال معظم هذه العادات حاضرة؛ حيث باتت بمثابة طقوس ملازمة للشهر المبارك، وإن تلاشى بعضها للعام الثاني على التوالي بسبب ما يعيشه العالم من إجراءات مشددة وحظر لمواجهة تفشي فيروس كورونا.
مصر.. مشهد رمضاني غنيّ
كثير من العناصر المكونة للمشهد الرمضاني كانت مصر مكان ولادتها ومصدر انتشارها، بدايةً من الفانوس، الذي تُرجع الروايات ارتباطه بالشهر إلى يوم وصول الخليفة الفاطمي المعز لدين الله للقاهرة عام 972 م، حيث خرج الأهالي يومها للترحيب به واستقباله بأطراف الصحراء الغربية، من ناحية الجيزة، وكان وقت قدومه ليلاً، فحملوا معهم المشاعل، والفوانيس الملونة والمُزيّنة، وصادف أن كان ذلك في ليلة دخول شهر رمضان، ومنذ ذلك اليوم صار الفانوس في مصر من مظاهر الاحتفال بقدوم الشهر الفضيل. وارتبط بالفوانيس الغناء الشهير “وحوي.. يا وحوي.. أيوحه”، وهي أغنية فرعونية الأصل، كانت تُغَنى احتفاءً بالقمر والليالي القمرية، وكان القمر عند الفراعنة يطلق عليه اسم “أيوح”، وبعد انتشار ظاهرة الفوانيس وارتباطها برمضان في العصر الفاطمي صارت الأغنية مرتبطة بشهر رمضان، بعد أن كانت مرتبطة بكل الشهور القمرية.
ولا يكتمل المشهد الرمضاني دون “المسحراتي”، وكانت مصر أيضاً أول من ظهر فيها المسحّرون، فأول من نادى بالتسحير هو عنبسة ابن اسحاق، والي مصر زمن العباسيين، ســنة 843م، فكان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وينادي بالنّاس للسحور، وفي عصر الدولة الفاطميَّة أصبح الجنود هم من يتولى أمر التسحير، قبل أن يتم تعيين رجال مختصين، أصبح يعرف واحدهم بـ “المسحراتي”، وكان يجول الطرقات ويصيح: “يا أهل الله قوموا تسحروا”. وأول من أيقظ النّاس على الطّبلة هم أهل مصر، أما أهل البلاد الأخرى، كاليمن، والمغرب، فكانوا يدقّون الأبواب بالنبابيت (العُصي)، وأهل الشّام كانوا يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان (جمع عود) والطّنابير، منشدين أناشيد خاصة برمضان.
ولعصور متعاقبة ظلّ المسحَّراتي صورة لا يكتمل شهر رمضان من دونها، ومع تقدُّم الزمن وتطوُّر الوسائل أخذت هذه المهنة بالانقراض، قبل أن يعاد إحياؤها على نطاقات محددة، وبأشكال فلكلورية، لم تعد جزءاً أساسياً من السياق الاجتماعي.
كما كانت القاهرة أول مدينة يدوّي فيها مدفع رمضان؛ فعند غروب أول يوم من رمضان عام 1464م كان السلطان المملوكي الظاهر خشقدم يجرب مدفعاً جديداً وصل إليه، وقد صادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالضبط، فظنّ الناس أنّ السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين بحلول موعد الإفطار، فخرجت جموع الأهالي إلى مقرّ الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضيّ في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعَي السحور والإمساك، وانتشرت الفكرة بعد ذلك في مختلف الأقطار والبلدان.
الخليج.. شهر الترابط الاجتماعي
وتتميز بلدان الخليج العربي بطابعها وطقوسها الرمضانية الخاصّة، ومن أشهرها “الغبقة” أو “الغبقة الرمضانية”، والغبقة هي الوجبة المتأخرة في الليل، وفي رمضان تكون وجبة متوسطة بين الإفطار والسحور، وهي عُرف رمضاني ثابت عند أهل الخليج، حيث يحرصون على إقامة الغبقات الرمضانية، ويدعون لها الأهل والأصدقاء في بيوتهم، ويعتبرونها فرصةً لتعزيز التعارف والترابط بينهم، ويلتزم الخليجيون عند إحياء الغبقة بارتداء اللباس التقليدي، وتبقى وجبة “المحمّر”، والتي تتكون من سمك الصافي المقلي، والأرز المطبوخ بالسكر أو بالدبس هي سيدة الغبقة، يضاف لها أطباق وأصناف أخرى من المقبلات والحلويات.
ومع مرور السنوات خرجت الغبقات من كونها عادات تقام في المنازل وبين الأهل والأقرباء إلى الفنادق والخيام الرمضانية، حيث وجدت الشركات والمؤسسات فيها فرصةً لتعزيز علاقات موظفيها ومنتسبيها، وقد دفع انتقال الغبقات الرمضانية إلى الفنادق والخيام الرمضانية القائمين عليها إلى إدخال بعض الألعاب الشعبية والمسابقات التي ترفق بجوائز للفائزين إلى جانب إحياء بعض الأغاني الشعبية.
ويعتبر “القرقيعان” من أشهر الطقوس والتقاليد المميزة للمشهد الرمضاني الخليجي، وهو تقليد سنوي يُحتفل به في بلدان الخليج منتصف شهر رمضان، خلال ليالي الأيام 13 و14 و15، حيث يطوف الأطفال مرتدين أزياء شعبية، مرددين الأهازيج، وتقوم الأمهات بخياطة أكياس القرقيعان، ويحتوي الكيس في داخله على المكسرات، والحلويات، وأحياناً قطع نقدية. يخرج الأطفال وينتقلون من بيت جيران إلى آخر، وعند وصولهم الى البيت يرددون: “قرقيعان وقرقيعان، بيت قصير ورميضان، عادت عليكم صيام، كل سنة وكل عام”، ثم يسألون: “يسوق الحمار أو ما يسوق؟”؛ يقصدون: عندكم قرقيعان لنبدأ في طلبه أو ليس عندكم منه، فننصرف عن بيتكم؟ فإذا قيل لهم “يسوق”، سألوا عن أسماء المراد ذكر اسمهم من أهل البيت في أهزوجتهم والتمني له بالسلامة والسعادة، ثم يبدأونها بقولهم: “سلم ولدهم يالله، خله لأمه، يالله، سلم فلان (باسمه) يالله خله لأمه..”، وقد تكون المطلوب ذكرها أنثى، فتغير الصيغة للتأنيث. وبعد الانتهاء من الأهزوجة يقوم أرباب وربات البيوت بوضع القرقيعان في أكياس الصبية، وتكون فرحتهم إذاك غامرة، وأثناء انصرافهم يرددون: “عساكم تعودونه، كل سنة وتصومونه”.
الشام.. أحاديث الحكواتي تطوي ساعات الليل
بالإضافة إلى العادات الرمضانية التي قدمت من مصر تميزت مدن بلاد الشام بعديد من العناصر الخاصة، بدايةً من تشكيلة المأكولات والمشروبات والحلويات الغنيّة الخاصّة بالشهر، من قمر الدين، والسوس، والخروب، والقطائف، والبرازق، إلى العادات والمظاهر الاجتماعية، من التئام شمل العائلات على الموائد، وتبادل الجيران أطباق الطعام تعبيراً عن المودة والصلة، ويعتبر “الحكواتي” من أبرز العادات الرمضانية الخاصة بالشام، حيث كان يُخصص له كرسي خاص في المقهى، وكان يعتبر بمثابة المسلّي الوحيد في ساعات الليل الرمضانية قبل تطور أشكال الفنون والدراما ووسائل إنتاجها وعرضها، وكانت المقاهي الشعبيّة مركزاً للحكواتي، الذي كان يحكي حكايات البطولة والرجولة أمام جمع من الناس، يتفاعلون مع أحداث الحكاية.
باكستان.. مباريات من نوع خاص تُعين على السهر
وتتميز مدينة بيشاور الباكستانية بتقليد رمضاني فريد من نوعه، حيث يتجمع الشبان ليلاً في الأسواق، ويبدأون بممارسة لعبة قديمة، بهدف إبقائهم مستيقظين طوال الليل وحتى موعد السحور، وهي مباريات كسر البيض المسلوق، والتي يُستخدم فيها بيض مسلوق ملوّن بألوان زاهية، فيمسك كل متسابق ببيضة مسلوقة، ويبداً بضربها عن قرب بتلك التي لدى الخصم، بهدف كسرها، ومن تُكسر بيضته أولاً يخسر المباراة، وهكذا يتأهل الفائز للمرحلة الثانية. ولعبة كسر البيض هي لعبة قديمة توارثتها الأجيال، ويعود سبب انتشار اللعبة في بيشاور تحديداً إلى كونها مدينة مكتظة تفتقر للساحات والملاعب، حيث لا تحتاج هذه اللعبة إلى مساحة واسعة.
موريتانيا.. التبرك بالشعر النابت في الشهر
وفي موريتانيا، نجد عادة رمضانية خاصة بالشباب الموريتاني، وتعرف باسم “نبتة رمضان”، حيث يعزفون عن حلاقة شعور رؤوسهم طيلة شهر شعبان، وفي ليلة غرّة رمضان يتوافدون على الصالونات لحلاقة شعر الرأس بالكامل؛ تبركاً بالشعر النابت طوال الشهر الفضيل.
أندونيسيا.. قرع الطبول
أما أندونيسيا، أكبر الدول الإسلامية، فتتميز بطقوسها في استقبال رمضان، فمع إعلان قدوم الشهر، يخرج الأطفال في مختلف المدن الأندونيسية حاملين المشاعل ابتهاجاً بقدومه، وتقرع الطبول الأندونيسية التقليدية المعروفة باسم “البدوق”، وهي طبول ضخمة يتم قرعها فور الإعلان عن حلول شهر رمضان حيث تجوب الشوارع شاحنات صغيرة تحمل “البدوق”، ويقوم الشباب بقرعها للاحتفال بقدوم رمضان، حيث باتت هذه الطبول رمزاً للشهر في أندونيسيا.
المصدر: حفريات