زينة رمضان.. تراث عابر للتاريخ يجوب البيوت السورية ليصنع الفرح
تزيين المدن والقرى من العادات المتوارثة جيلاً عن جيل، وهي كما يؤكد اختصاصيو التراث الشعبي فإنها من العادات السورية القديمة، فكيف تطورت مع مرور الزمن إلى ما وصلت إليه اليوم؟
تحمل رحلة تطور زينة رمضان في طياتها العديد من الحكايات التاريخية القديمة، والحديثة المعاصرة، جزء منها تراثي ثقافي، وآخر اقتصادي مجتمعي، وصورة عن تفاصيل محببة لعائلات لم تكتف بإنارة مدنها وشوارعها، وإنما حملتها بعداً روحياً يشع بمناسباتهم قيما إنسانية جميلة.
كيف بدأت عادات تزيين المدن؟
عادة تزيين المدن قديماً ارتبط بمناسبات عديدة، فكانت تزين احتفالاً بالنصر على الأعداء، واستمرت هذه العادة في مراحل تاريخية لاحقة في المناسبات الوطنية أو الدينية.
وعن تزيين المدن قديماً يتحدث الباحث في التراث الشعبي السوري محي الدين قرنفلة في تصريح لـ سانا: “كان قديماً يؤتى بأكاليل الغار لتزيين رؤوس القادة المنتصرين، وفي مراحل تاريخية لاحقة كانت تزين المدن عند قدوم مولود جديد للملك أو السلطان، وحملت بعدها الزينة أشكالاً عدة أهمها تعليق السجاد على الجدران، وتحضير أغصان أشجار النخيل وسعفه، ليتم تشكيل قوس عند أبواب الأحياء والحارات”.
وتابع قرنفلة: “كان يطلب من الدومري، الرجل الذي كان يشعل القناديل في الأزقة القديمة قبل عصر الكهرباء، تعليق فوانيس إضافية في الحارة أو الحي وحسب المناسبة، واستمرت عادة تزيين المدن مع مرور الأيام لتدخل احتفاء بعيد الميلاد المجيد واستقبال شهر رمضان المبارك”، وفي هذه المناسبات، تلبس المدن حلة جديدة في أسواقها الرئيسية وحاراتها الشعبية، وخاصة في الأحياء الداخلية الكبيرة، حيث تزين المقاهي بشكل ملفت وتضاء قناديل إضافية بقدوم شهر الصوم.
وأوضح قرنفلة أنه عند دخول الكهرباء مدينة دمشق تحديداً مع مطلع القرن العشرين كانت خطوط الكهرباء تمتد من أول سوق الحميدية، وحتى باب الجامع الأموي طوال شهر رمضان، إضافة إلى الأسواق الداخلية كلها، حيث كان الناس داخل أحياء المدينة يشاركون في تزيين الحارات وتوزيع الحلوى على الناس، وأحياناً يقومون بألعاب تسلية تستمر حتى بعد انتهاء أيام عيد الفطر، إضافة إلى تزيين الحارات والبيوت احتفالا بعيد المولد النبوي وفي المناسبات الوطنية والعامة، وعند عودة حجاج بيت الله الحرام من الحج.
كيف استخدم فانوس رمضان في الريف السوري؟
لفانوس رمضان في قرى الريف السوري قديماً، وظيفة خاصة فإنارته تخبر الناس بقدوم وقت الإفطار والسحور، لكون منازل القرى بعيدة عن بعضها ومنتشرة على مساحات واسعة، فكانت العائلات تراقب مئذنة المسجد حين يتم إشعالها فهي تدل على بدء وقت الإفطار، لتطفأ إلى وقت السحور والإمساك، ويعود إمام المسجد بإنارتها لإخبار الناس بأن وقت السحور قد بدأ، وفق ما أوضحه محمد شاهين من ريف حمص.
وفي حديث لـ سانا بين علي إسماعيل من ريف حماة أن الفانوس ارتبط في ذاكرته لعقود طويلة بشهر رمضان المبارك كطقس من طقوس الشهر الفضيل، ليعكس جواً من الفرح تنسج حوله الحكايات اليومية لأهل البيت والجيران سواء كانت حكايات قديمة من حكايات الأجداد، أو أخباراً اجتماعية لأحوال الناس في القرية، حيث تستمر السهرات حتى بعد منصف الليل لحين موعد السحور.
وعن الفانوس تحدث العم حسن القصير 75 عاماً من ريف اللاذقية: “كنا نستعمل الفانوس لإنارة دربنا في المساء عند التنقل بين القرى القريبة لزيارة بيوت رجال الدين في تلك القرى، لكونها كانت مركز اجتماع لأهالي القرى بقصد إحياء ليالي رمضان المبارك بجو من الروحانية نتشرب فيه القيم الإنسانية السورية النبيلة”.
والفانوس بذاكرة علي إبراهيم من ريف طرطوس اقترن بزينة الشوارع في المناسبات، وخلال استضافة أحد الوجهاء في مضافة المختار حين يجتمع عنده رجال القرية، كما كان يزين منزل العرسان ومن يأتيه مولود جديد.
كيف تطورت صناعة الزينة؟
تعددت أشكال الزينة وتطورت مع الزمن حتى باتت صناعة كاملة خصصت لها بعض من منتجات المعامل، منها معمل الزجاج أو ورشات الحرف التراثية، واختلفت تصاميمها وأحجامها وألوانها، لتكرس تقليداً مستمراً لدى العائلة السورية.
ودخلت الوسائل الحديثة على تصاميمها، والتي تحمل الشرائح الضوئية، كما أنها باتت مصدر رزق لشباب وشابات موهوبين من خلال تصنيع منتجات الزينة، وتسويقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتروي السيدة مها فاضل قصتها مع زينة رمضان حيث إنها استخدمت موهبتها في الأوريغامي (فن طي الورق) والكروشيه التي صقلتها في أحد المعاهد التابعة لوزارة الثقافة، وأخذت تصنع فوانيس رمضان التي نالت استحساناً من المحيطين بها، ثم وسعت عملها فأدخلت عليها الإنارة وبدأت بتسويقها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في شهر رمضان الماضي.
ولقيت زينة فاضل قبولاً لكونها وفرتها بأسعار مناسبة، ثم طورت عملها هذا العام، وتشاركت مع ورشة خشب بالليزر، وقامت بتصنيع أشكال مختلفة ومتنوعة من الفوانيس، لافتة إلى أنه رغم الوضع الاقتصادي إلا أنها تلقى قبولاً لدى الناس وخاصة الأمهات اللواتي يجدن فيها وسيلة لإدخال الفرح إلى قلوب أطفالهن.
أقدم معمل زجاج في دمشق يصنع فوانيس رمضان والكثير من الزينة التي تميزت بالطابع الدمشقي في مشغل أحمد الحلاق أبو محمود في باب شرقي منذ عام 1969، وهو أقدم معمل زجاج في دمشق والوحيد الذي ما زال مستمراً بالإنتاج بعد تداعيات الحرب على سورية، والتي ضيقت الخناق حتى على التراث وسجنته في براثن الحصار الجائر.
وأوضح الحلاق أن الدمشقيين هم أول من نفخ الزجاج في العالم، وهي حرفة تراثية موروثة من الأجداد إلى الأبناء، ولم يبق سوى عائلته تعمل في هذه الصناعة بعد اندثار عائلة القزازين، التي عملت على تصنيع فوانيس رمضان لتضيء شوارع الشام إضافة إلى سراج الزيت والثريا.
وبعدها تحولت هذه الصناعة حسب الحلاق من أسلوب للإنارة قديماً إلى طقس من طقوس رمضان في العصر الحاضر، فانتقلت من مشروع إلى حرفة تراثية على طريق الاندثار بسبب الظروف الاقتصادية القاسية التي تتعرض لها سورية، وأهمها نقص الوقود الذي يعد عصب الإنتاج.
وتحدث الحلاق عن مهنته التي أتقنها عندما أصبح بعمر 14 عاماً، وأخذ يصنع قطعاً فنية في غاية الجمال، واستمر إلى الآن حيث أمضى 52 عاماً من عمره في هذه المهنة.
وبين أنه يصنع يومياً شتى الأشكال والألوان من أباريق وأكواب مختلفة الأحجام والأشكال وقوارير ومزهريات الزينة وقناديل وحوامل شموع وثريات وعناقيد عنب، وغيرها من الأشكال وصولاً للتحف التراثية.
ويعتمد الحلاق في عمله بشكل أساسي على إعادة تدوير الزجاج المكسور كمادة خام لكونه أقل تكلفة مقارنة مع تصنيعه بالمواد الخام – وتحديداً الرمل الذي يعد أعلى تكلفة – فضلاً عن سهولة إعادة تدويره والاستفادة من بقاياه، الأمر الذي يعود بالفائدة على المجتمع والبيئة، مؤكداً تمسكه الطريقة التقليدية التي تعلمها رغم التطور والتقدم التكنولوجي.
“أرق من زجاج الشام”، يصف الحرفي خالد الحلاق حكاية هذه الحرفة بالإشارة إلى رقتها وشفافيتها، فيقول هي نثرات زجاجية أرق من الشعرة استخدمت لتزيين العرائس “البريق”، والتي تميز بصناعتها الدمشقيون عن غيرهم لتغدو علامة فارقة وخاصة بألوانها المميزة، الأزرق والفيروزي والمدمج بالفضي المموج، وسر نجاحها في النفخ والتشكيل اليدوي لتأخذ الشكل المطلوب، حيث بقي 30 عاماً وهو يشكلها وينفخ فيها من روحه وفق تعبيره.
وأضاف: “إن الفوانيس يتم تصنيع حباتها كل قطعة على حدة، ويتم تجميع تلك القطع بتقنية فنية جميلة تعكس صوراً قديمة من الذاكرة الدمشقية من كل الأوابد الأثرية فيها بدءاً بالجامع الأموي والفسيفساء الزجاجي المطرز بالخط العربي، وكذلك الأضواء في الكنائس ونوافذ البيوت الدمشقية وشوارعها”.
كيف تحولت صناعة الفوانيس من صناعة إلى حرفة تراثية لها ذاكرتها الحية؟
الزينة الرمضانية من الفوانيس والنجمات والهلال وغيرها من الأشكال المحببة للذاكرة السورية الحية، هي حرف تراثية تطورت صناعتها مع التطور التكنولوجي، وانتقلت من الصناعة اليدوية البدائية إلى صناعة متطورة لها أسواق محلية وخارجية.
وأوضح الخبير الاقتصادي عامر شهدا أن هذه الزينة مرغوبة في الدول الأجنبية أيضاً لما تحمله من رمزية روحانية مشتركة بين المجتمعات، وهذا ما شهدناه مؤخراً في تزيين إحدى الساحات في لندن بمناسبة شهر رمضان المبارك.
وبين شهدا أن هناك اندفاعاً اجتماعياً لتصنيع الزينة التي يتميز بها الشهر الفضيل وتختلف المواد المستخدمة في صناعتها، فهناك النحاس والخشب والقماش وأسلاك الحديد وغيرها من المواد، وباتت هذه الصناعة شبه شعبية، ولها أسواقها الموسمية، حيث يتم طرح منتجات زينة شهر رمضان بأجواء احتفالية تجذب المستهلكين لشرائها، كما هو الحال في زينة عيد الميلاد.
وأشار إلى أن تلك الصناعة فتحت لنفسها سوقاً عالمية لتجد الصين من المنافسين اللذين غزوا العالم بمنتجاتهم المشابهة للصناعة الدمشقية التراثية، معتبراً أن هذه المنافسة لن تؤثر على صناعتنا التراثية فيما لو أعطيناها الأهمية اللازمة كثقافة وتراث تاريخي يصنع في مهده.
كما أوضح شهدا أنها خلقت فرص عمل مباشرة وغير مباشرة عبر الكثير من الورشات التي تصنع مثل هذه الزينة، وهي تنافس الصناعة الصينية، رغم غزارة عرضها في الأسواق، وأنها رغم ضآلة دورة رأس المال وموسميتها إلا أنها تحقق دخلاً إضافياً جيداً.
وقال شهدا: “إن الصناعات التراثية لها أهمية خاصة، ولا تقتصر على الموسمية كزينة المناسبات الدينية، وإنما الأمر يتعدى ذلك فهناك الخط العربي الذي يعتبر قيمة مضافة لزينة الشهر الفضيل، إضافة إلى الزجاج والموزاييك”، مؤكداً أهمية الحفاظ عليها من خلال إحداث كلية مهنية للصناعات التراثية على غرار كلية ومعاهد تعليم تعشيق الزجاج الملون الذي تدعمه الكنيسة الكاثوليكية، فهو مستخدم بكثرة في نوافذ الكنائس في أوروبا.
كيف تتم صناعة الفرح ضمن البيوت السورية؟
صناعة الفرح رغم الظروف القاسية والتحضير لاستقبال شهر كريم يزور الناس مرة واحدة كل سنة هي ما جعلت العديد من العائلات السورية تتجه هذا العام إلى اقتناء زينة رمضان، لتصبح جزءاً من طقس اجتماعي عصري.
ففي السنوات السابقة كانت الشوارع والساحات، وخاصة في منطقة سوق الحميدية والعصرونية والجزماتية بالميدان، وغيرها من المناطق هي التي تزين احتفالاً بالشهر الكريم.
ولكن الملاحظ في السنوات الأخيرة هو زحف هذه الزينة إلى داخل البيوت مع توافر أشكال جديدة ومختلفة وبتقنيات تجمع بين الخشب والإضاءة الجميلة وشخصيات كريكاتورية محببة.
تقول السيدة سيدرا أم لطفلين: “رغم الظرف الاقتصادي الصعب الذي نعيشه ولكني حرصت على اقتناء زينة رمضان وتزيين المنزل بها، لكي يعيش أطفالي فرحة الشهر الكريم، ويستشعروا بمعناه الجميل”، مشيرة إلى وجود أشكال كثيرة للزينة وخاصة الخشبية.
أما ريما موظفة، فقالت: إنها لاحظت هذا العام التنافس عبر وسائل التواصل الاجتماعي في عرض صورة الزينة الأجمل ومشاركة صورها مع أغاني مناسبة للشهر الفضيل.
وبينت أهمية وجود الزينة الرمضانية في البيوت للتعبير عن الفرح باستقبال هذا الشهر الفضيل الذي يحمل معاني إنسانية سامية وروحانيات تجمع كل المسلمين.
وقد تزينت ساحة الأمويين وسط دمشق بزينة رمضان عبر أشكال تضمنت الفوانيس والهلال بتصميمات جميلة وملفتة، أصبحت مقصداً لسكان هذه المدينة لالتقاط الصور والاحتفاظ بالذكريات، لتشكل الزينة التي عبرت عبر التاريخ وتصل في النهاية إلى هذا الشكل الجميل معلماً جميلاً أضاف إلى قلوب السوريين لحظة فرح توثق بصورة للزمن.