رسالة حزب الله تدوّي في واشنطن وتل أبيب: لا عودةَ للحرب… ولا تخلِّيَ عن حق الدفاع!
كتب علي حيدر في الأخبار:
رغم المواقف التهويلية لقادة العدو والاعتداءات التي توزّعت في أكثر من منطقة أمس، إلا أن التطورات الميدانية لا تزال بعيدة عن انهيار اتفاق الحرب، وإنما هي جزء من محاولة بلورة معادلات ما بعدها. فما يسعى إليه الإسرائيلي هو فرض هامش عدواني واسع نسبياً، استناداً إلى تفاهم جانبي مع واشنطن، فيما المطلوب من لبنان والمقاومة التكيّف معه. إلا أن رد حزب الله أفهم العدو أن هذا الأمر غير وارد مهما كانت التداعيات وأنه يملك التصميم والقدرة على مواجهة فرضه. وسبقت ذلك أيضاً سلسلة مواقف محلية ودولية حذّرت من تداعيات الاعتداءات والخروقات التي تحاول إسرائيل إرساءها كما لو أنها جزء من الروتين اليومي اللبناني.
وقد دوَّت رسائل الرد المدروس لحزب الله في مزارع شبعا، لدى دوائر التقدير والقرار في واشنطن وتل أبيب ودفعتها إلى إدراك أن التمادي في الاعتداءات والخروقات ينطوي على مخاطر جدية تهدّد اتفاق وقف إطلاق النار. في المقابل، أظهر حزب الله حرصاً على عدم الدفع ابتداء نحو مسارات تؤدي إلى هذا السيناريو، وفي الوقت نفسه بما لا يسمح للعدو بأن يحقّق أهدافاً لم يستطع انتزاعها من لبنان خلال الحرب. فحرص أن يكون ردّه في منطقة مزارع شبعا التي لا يشملها القرار 1701، وتتمتع بخصوصية تميّزها عن الخط الأزرق. فكان الرد محدوداً في بعده العسكري عبر اطلاق صواريخ معدودة نحو موقع عسكري في مزارع شبعا. وعلى مستوى الموقف أوضح حزب الله بأنه «البيان رقم واحد»، في إشارة إلى أن هناك ما قد يليه في حال أصرّ العدو على محاولاته. كما لم يكن عابراً أن يختم بيان المقاومة الإسلامية بموقف حاسم عبر عبارة «وقد أُعذر من أنذر»، في إشارة إلى تصميمها وقرارها بمواجهة أي تواطؤ أميركي – إسرائيلي يتصل بمستقبل الوضع في لبنان والجنوب. أما بخصوص المواقف الانتقادية التي صدرت من واشنطن للخروقات الإسرائيلية قبل رد حزب الله، فإنها لا تعني شيئاً إن لم تُترجم كبحاً لعدوانية إسرائيل، بل قد تتحول إلى غطاء للعدو من أجل استنفاد محاولاته.
كذلك كان لافتاً أن أصداء الرد المدروس تجاوزت بعده العسكري والجغرافي، ولكنها أكثر تناسباً مع طبيعة رسائله ومؤشراته. ولذلك توالت المواقف لدى الجهات السياسية والأمنية في تل أبيب وواشنطن، بما يستبطن إدراكاً بأن حزب الله غير مرتدع عن أي خطوات عملياتية يراها ضرورية لمنع العدو من فرض معادلات لا تتوافق مع اتفاق وقف إطلاق النار، وبأنه يتمتع بالتصميم والاستعداد لمواجهة أي مساع في هذا الاتجاه. ويعني أيضاً أن هذه الرسائل وصلت إلى حيث ينبغي.
في مواجهة هذا التحدي اختارت مؤسسة القرار السياسي والأمني في كيان العدو أن ترتقي في اعتداءاتها على أمل أن ترفع منسوب المخاوف لدى حزب الله من التدحرج نحو مواجهة كبرى، بهدف التأثير في قراراته للامتناع عن خيارات عملياتية مضادة للتفاهم الجانبي بين واشنطن وتل أبيب بمنح جيش العدو «هامشاً عملياتياً» عدوانياً في مواجهة ما تراه تهديداً أمنياً، يتسع ويضيق بحسب المتغيرات السياسية والأمنية.
ومع أن اعتداءات العدو أظهرت أن إسرائيل لا تزال تسعى إلى فرض معادلات توافقت عليها مع واشنطن، عبر جعلها أمراً واقعاً. إلا أن تحديد ملامح هذه المعادلات ومداها ووتيرتها يحتاج إلى مزيد من الوقت. وبالتالي فإن ما يجري حتى الآن ليس انهياراً لاتفاق وقف إطلاق النار، وإنما لا يزال الميدان يتحرك ما بين بلورة معادلات ما بعد الحرب، وما دون التدحرج نحو الحرب. لذلك، فإن مواقف العدو وأداءه أقرب إلى خيارات وضرورات المرحلة الانتقالية من منظور مصالحه وأولوياته ورهاناته، في محاولة لتعويض بعض ما لم ينجح في تحقيقه خلال الحرب. وأيضاً من متطلبات تعزيز صورة إسرائيل التي بدت أمام رأيها العام وأغلب منظومتها السياسية والإعلامية قاصرة عن تحقيق الأهداف التي وضعتها للحرب، وفي محاولة لتوفير «الشعور بالأمن» لدى مستوطني خط المواجهة مع لبنان الذين ترفض غالبيتهم العودة. ولذلك تحاول القيادة الإسرائيلية أن تثبت لهم بالممارسة أن «ما كان» قبل تشرين الأول 2023، «لن يكون» بعد وقف إطلاق النار مع لبنان.
مع ذلك، ينبغي أن لا تحجب المواقف التصعيدية التصاعدية لقادة العدو وأداؤه العدواني أيضاً حقيقة أن العدو أدرك مفاعيل رسالة حزب الله التي من المؤكد أنها حضرت على طاولة الأجهزة المختصة، وفتحت أمامها مروحة من السيناريوهات أثارت مخاوفها لما تحمله من مؤشرات. فكان واضحاً لها تصميم حزب الله على مواجهة محاولات فرض معادلات من خارج اتفاق وقف إطلاق النار مع الدولة اللبنانية. وبذلك يكون الحزب قد بدَّد أي رهانات على بقاء المقاومة مكتوفة الأيدي إزاء التمادي في الاعتداءات والخروقات.
في الخلاصة، ليس عابراً أن نشهد هذه التداعيات السياسية والأمنية لرد حزب الله المحدود على المستويين العسكري والجغرافي، إذ كشفت عن قرار أصبح أكثر تجذراً لدى مؤسسات القرار الأمني والسياسي في واشنطن وتل أبيب بأن حزب الله لا يزال يملك القدرة والإرادة على المبادرة والرد. والأهم أنه أثبت بالموقف والممارسة أنه قادر على أن يفرض أيضاً هامشاً عملياتياً دفاعياً في مقابل الهامش العدواني الذي منحته واشنطن لتل أبيب.