الأمل والوعي: خطابٌ يحملنا إلى فلسطين

كتب بدر الإبراهيمي في الأخبار:
«ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات»
لن تمر هذه العبارة مرور الكرام على شخصٍ ينتمي إلى جيلٍ تفتّح وعيه على نهج مدريد وأوسلو، حيث ينبغي عليه أن يرث الهزيمة، ويسلّم بها، ويعتبر تحسين شروطها مُنجزاً. في ظل نشر ثقافة الهزيمة في التسعينيات، ووصول الأمة إلى قاعٍ جديد، بدأ خطاب السيد يصنع بقعة أمل وسط اليأس، ويغذّيها بعملٍ مقاوم فعّال، ويؤسّس لزمنٍ عربي موازٍ لزمن الخنوع، يقدّم الفرصة لمن يريد مطاردة حلم التحرّر من الهيمنة، والخروج من أقفاص الاستعباد المُذَهّبة.
قال لا في وجه من قالوا نعم، وراكم الآمال بعملٍ قاد إلى خلق نموذج عملي. لم تعد المسألة بعد ذلك مجرد تنظير، فقد بات لأنصار خيار المواجهة دليلٌ عملي قاطع: انتصارٌ واضح بتحرير أرضٍ عربية من الاحتلال عام 2000. هكذا تفرّد السيد، إذ أصابت بندقيته الهدف بدقّة متناهية، فأثبتت أن الهزيمة ليست قدراً، وأن النصر ممكن بمراكمة أفعال المقاومة.
لا يحملك خطابه نحو العزة والكرامة والأمل المتمدّد وحسب، بل إن صناعة الوعي هي في قلب خطابه. يخاطب العقول والقلوب معاً باستثنائية مدهشة، ويعيد التأكيد على أساس الصراع في المنطقة: الاحتلال والهيمنة، ويوجّه البوصلة في كل مرة صوب فلسطين، ويشدّد على التناقض الرئيسي مع الغرب الاستعماري.
يكرّس لغة التحدي والانتصار في عام 2006. خطابه وعمله يقرّبانك أكثر من فلسطين. تبدو خطاباته حاجة مستمرة للفهم ورؤية اتجاه البوصلة. شخصٌ لم يعش عصر عبد الناصر وسمع عن تأثير خطاباته في الأسلاف، سيجد في خطاب السيد (مع اختلاف واقع الرجلين) شيئاً من تلك العزة والتحدي والعنفوان، والسعي لكرامة الأمة. يمكن أن يقول ما لا تتفق معه، لكنّ خطابه سيظل يشدّك ويمنحك الإيجابية والأمل بانتصارٍ جديد وكبير.
لكن، كيف لعروبي يساري، لديه إشكال أيديولوجي مع الإسلام السياسي، أن يرى الأمل والوعي في عمامةٍ عقيدتها ولاية الفقيه؟ هذه عمامةٌ محفورٌ فيها اسم فلسطين، وفعلها المقاوِم ينضح عروبة. السيد يدافع عن الأمة في مواجهة أعدائها، ويرفض تقسيمها، ويؤكد على ضرورة توحّدها، وهذا «عروبيٌّ» بما يكفي ليجعل عروبيين ويساريين يهمّشون كل اختلاف أيديولوجي معه، ويرون – كما يرى – التناقض الرئيسي مع العدو المحتل.
هذه عمامةٌ شيعية، لكنها لم تدر ظهرها للأمة من أجل الطائفة ومكاسبها. كان يمكن للسيد أن ينكفئ، وينعزل داخل طائفته، ويتمتع بزعامتها الإقليمية لا اللبنانية وحدها، ولا يخوض معركة «السنّة» كما تقول الانعزالية الشيعية اليوم بصوتٍ عالٍ، غير أنه وهب حياته لفلسطين. رغم تمذهبه في السياسة لم ينزلق السيد يوماً، حتى في عز الحروب الأهلية العربية، إلى خطاب التحريض الطائفي، أو تفسير تلك الصراعات طائفياً، كما فعل كثير من خصومه. كان يصنع الوعي بربط تلك الصراعات بالصراع الأساسي في المنطقة، ويرفض تأجيج الفتنة.
خطاب الأمل والوعي الذي حمله السيد ترك بصمته في من اعتبروا مواجهة الهيمنة الغربية، ومقاومة الاحتلال، في رأس أولوياتهم، ومنهم فئة لديها هذه الأولوية في الخليج والجزيرة العربية، من أعمار وخلفيات مذهبية متعددة، لكنّ القابلية العالية في تلك المنطقة لانتشار الخطاب الطائفي والدعاية الغربية، أسهمت، إلى جانب أسباب أخرى، في أن تكون الموجة الأعلى سلبيةً تجاه خطابه وعمله.
أسباب عدم التغلب على متاريس الطائفية في منطقتنا بحاجة إلى تحليلٍ يطول، لكن السيد فرض حضوره حتى على خصومه وكارهيه، الذين تتبّعوا خطاباته، وردّوا عليها، وتفاعلوا معها، وما كان لكثيرٍ منهم، رغم حقدهم، إلا أن يقرّوا بقدرته وتأثيره وهيبته. أثّر السيد على الحركات الشيعية المتأثّرة بخطابه في الخليج، بتعزيز الوعي عندها بضرورة تجنب الصدامات الطائفية، والسعي لحل الأزمات في إطار الحفاظ على السلم الأهلي، وهذا جنّب تلك المجتمعات أهوالاً عديدة. لكنّ تأثيره الأكبر كان في اليمن، حيث ظهرت حركة تستلهم منه الأدوات اللازمة للعمل، وتتجه ببوصلتها نحو فلسطين.
السيد صانع الأمل يترك إرثه لمن لا تنحرف بوصلته: فلسطين قبلةً للتنظير والعمل، تتوحّد عندها الأمة، وتتسامى على اختلافاتها الأيديولوجية والمذهبية، والمقاومة سلاحاً يمكن من خلاله هزيمة الهزيمة في الوعي وفي الميدان.
* كاتب عربي