لبنان

إنتماء أقوى من الإبادة!

كتب جو رحال في نداء الوطن: 

في ربيعٍ أسود من عام 1915، قرّرت السلطنة العثمانية أن تمحو شعباً بكامله من الوجود. مليون ونصف مليون أرمني قُتلوا بدمٍ بارد، وملايين شُرّدوا من قراهم ومدنهم، في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية. لم تكن الإبادة الأرمنية مجرّد مأساة عابرة، بل جرحاً غائراً في التاريخ، وصرخة ما زالت تنتظر اعترافاً كاملاً يليق بحجم الألم.

ومن بين الدول التي فتحت أبوابها أمام الناجين، كان للبنان موقفٌ مختلف. لم يكن الوطن الصغير ملاذاً موقّتاً فحسب، بل صار حضناً دائماً وبيتاً جديداً. هنا، أعاد الأرمن ترميم حياتهم، لا بذاكرة الضحية فقط، بل بروح المشارك في صنع الوطن. لم يعيشوا في الظل، بل في قلب المشهد اللبناني، شركاء في الهوية، والنهضة، والمصير.

من برج حمود إلى أنطلياس، من مدارسهم إلى كنائسهم، من صحفهم إلى مسارحهم، أثبت أرمن لبنان أنهم أبناء الحياة. حافظوا على لغتهم، وثقافتهم، وإيمانهم، دون أن يغلقوا أبوابهم على الماضي. بالعكس، جعلوا من ذاكرتهم قوة دفعٍ نحو الانخراط في كل زاوية من زوايا المجتمع اللبناني. في السياسة، في الاقتصاد، في الفن، في التعليم… كانوا دائماً حاضرين، بجهدٍ هادئ، وإيمان عميق بلبنان الذي اختاروه وطناً لا محطة.

الكنيسة الأرمنية لعبت دور الحارس الروحي والثقافي، والمدارس الأرمنية صارت معابر بين الحنين والاندماج. أما الدولة اللبنانية، فقد سطّرت موقفاً مشرّفاً حين اعترفت رسمياً بالإبادة عام 2000، كدولة عربية تقف إلى جانب الحقيقة، لا المجاملة. كما انضمت دول كثيرة في العالم إلى هذا الاعتراف، بينما لا تزال دول أخرى حبيسة الحسابات والمصالح.

الإبادة الأرمنية لم تنتهِ بعد، ما دام هناك من يُنكرها، لكن الردّ الأجمل على الجريمة كان حياةً جديدة تنبض في لبنان. أرمن لبنان ليسوا مجرّد ناجين، بل هم بناة وطن، ونموذج حيّ على أن الانتماء ليس ورقة هوية، بل هو فعل يومي، وتاريخ مشترك، ووفاء لا يعرف المساومة.

لذلك، حين نُحيي ذكرى الإبادة، نحن لا نسترجع الموت، بل نُعلن انتصار الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى