خفايا قرار طبع فئات أعلى من الليرة اللبنانية!

كتب جاسم عجاقة في الديار:
أقر مجلس النواب في جلسته الأخيرة تعديلات على قانون النقد والتسليف، وبالتحديد المواد التي تسمح لمصرف لبنان بطباعة فئات جديدة من الليرة اللبنانية (500 ألف ومليون ليرة)، مع الحفاظ على حجم الكتلة النقدية في السوق. ومن المتوقّع أن يعمد مصرف لبنان إلى القيام بدراسة حول مواصفات الفئات التي سيتمّ طبعها وكمّيتها، بشكل لا تؤثر فيه بالكتلة النقدية الموجودة اليوم في السوق.
بالطبع هناك أسباب موجبة لهذه التعديلات، وعلى رأسها تخفيف كلفة طباعة الأوراق من الفئات الأصغر، وتسهيل حياة المواطنين، وتخفيف مخاطر نقل الأموال على الشركات… إلا أن التداعيات (غير المقصودة) لهذا الإجراء كثيرة، وقد تُعطي مفاعيل اقتصادية عكس ما تريده الحكومة في برنامجها الإصلاحي.
العملة الوطنية هي أكثر من وسيلة تبادل في الاقتصاد، حيث لا يقتصر دورها على التبادل التجاري فقط، بل تتمتّع أيضا بأبعاد استراتيجية كتعزيز الهوية الوطنية وإعطاء اللون السياسي للحكومات. ويتأثر الرأي العام بحسب قوّة العملة الوطنية، إذ إن توقعات دائمة بانخفاض العملة تُثير الرأي العام تجاه السلطة السياسية، وتؤدّي إلى خسارتها في الانتخابات. لذا لا يمكن اعتبار أن طبع فئات أعلى من العملة ليس له تأثير ولا تداعيات اقتصادية أو اجتماعية. فما هي التداعيات؟
1- الإشارة السلبية بتوقّعات تضخمية مستقبلية، سواء من باب ارتفاع الأسعار أو من باب طبع العملة. وهذا الأمر يؤدّي حتما إلى خفض الثقة بالعملة الوطنية من باب عدم الاستقرار، وإحجام المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في لبنان كعلامة ضعف الاقتصاد، وهو ما يؤثّر في سعر الصرف والتدفقات الإجنبية.
2ـ تسهيل اقتصاد «الكاش»، من خلال تسهيل المعاملات ذات الأرقام الكبيرة، كما وزيادة مخاطر التهرّب الضريبي والأنشطة غير المشروعة المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون 44/2015. الجدير ذكره أن القانون يلحظ عبارة «مع الحفاظ على حجم الكتلة النقدية في السوق»، وهو ما يوحي بعدم طباعة جديدة للعملة.
3ـ طبع فئات أكبر من العمّلة قد يُسرّع اعتماد أنظمة الدفع الرقمية، حيث يجد الناس أنه من غير العملي حمل أوراق نقدية كبيرة للمعاملات اليومية. إلا أن هذا الاحتمال لم تتمّ ملاحظته إلا في الاقتصادات المتطورة، حيث هناك نظام مصرفي وبسط كامل لسيادة الدولة المالية على أراضيها. أمّا في حال لبنان، فالاحتمال الأكبر هو زيادة التعاملات بـ «الكاش» مع سيناريو فقدان المصرف المركزي السيطرة على الكتلة النقدية، في حال تمّ تخزين الأوراق النقدية الجديدة أو تمّ استخدامها في أنشطة غير قانونية خارج النظام المصرفي.
4ـ قد يؤثر وجود فئات أكبر من العملة الوطنية في كيفية تدارك الناس لقيمة العملة، فتفسير هذا الإجراء من قبل المواطنين، على أنه ردّة فعل على توقعات بالتضخم أو عدم استقرار اقتصادي، يؤدي إلى الذعر أو التخزين أو التحول إلى بدائل أخرى لتخزين القيمة، حيث يزيد الطلب على العملات الأجنبية أو الذهب.
5ـ تشجيع المواطنين على إدخار هذه الفئات بدلاً من إنفاقها (الإنفاق هو عنصر أساسي في النمو الاقتصادي)، بخاصة إذا اعتبروها عملة غير عملية لمعاملات الحياة اليومية، كما هو الحال في لبنان مع اقتصاد مدولر وتعاملات اقتصادية، تتمّ بشكل شبه كامل بالدولار الأميركي (باستثناء مستحقات الدولة من رسوم وفواتير وضرائب يتمّ استيفاؤها بالليرة وبالكاش).
6ـ حرمان طبقات المجتمع من ذوي الدخل المنخفض، من استخدام هذه الفئات في المعاملات اليومية (تحدّيات عملية)، وهو ما قد يوسّع الفجوة بين مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
7ـ توقعات بتراجع العملة وتداعيات نفسية على المواطن من ناحية شعوره بالإذلال. وكردّة فعل، يعمد إلى شراء العملة الأجنبية عبر التخلّص من العملة الوطنية، مما يخلق ضغطًا على هذه الأخيرة، وتُصبح السلطة السياسية رهينة الأسواق المالية والسوق السوداء.
الاستراتيجية المعتمدة من قبل المصرف المركزي منذ آذار 2023 وحتى يومنا هذا، تنصّ على تجفيف السوق من الليرة اللبنانية ودولرة الاقتصاد بالكامل، وهو ما يجعل التوقّعات بشأن سعر الصرف رهينة ما قد يحصل على صعيد الإصلاحات الاقتصادية، وحلّ لأزمة المودعين ودين الدولة. لذا لا يمكن القول إن طبع فئات كبيرة من العملة، هو خطوة في عملية استقرار العمّلة، بخاصةٍ أنها غير مستخدمة في التعاملات الاقتصادية اليومية.
حذف أصفار؟
تتأثر قيمة العملة الوطنية بعدد كبير من العوامل، منها ما هو أمّني (الحرب والعنف والجرائم)، اقتصادي (السياسة الاقتصادية للحكومة)، سياسي (سياسة الحكومة الداخلية والخارجية)، نقدي (السياسة النقدية)، مالي (وضع المالية العامّة)، وقانوني (القوانين المرعية الإجراء). ويأتي سوء هذه العوامل ليؤثّر بشكل مباشر في قيمة العملة، التي قد تخسر من قيمتها مقابل العملات الأخرى.
وكما أن طبع فئات أعلى من العملة هي وسيلة لمواجهة التضخّم، يظهر حذف الأصفار من العملة الوطنية، كإحدى الوسائل المُتاحة أمام الحكومة (حذف الأصفار هو عمل سياسي بامتياز) لمنع اختراق العملات الأجنبية، وتحسين الوضع الاقتصادي ودعم السياسة النقدية. ومن الأهداف الأخرى لحذف الأصفار من العملة، كسب مصداقية دولية، جذب الاستثمارات الخارجية، السيطرة على سوق القطع، خفض الضغوطات التضخّمية، زيادة الثقة بالنظام السياسي الحاكم، وتعزيز الهوية الوطنية.
لكّن فعالية هذا الإجراء تبقى رهينة عدد من العوامل، مثل الاستقرار الاقتصادي (على الصعيد الماكرو)، خفض التضخّم وبالتالي ضبط الأسعار، استقرار سعر صرف العملة الوطنية، لجم الإنفاق الحكومي، الدعم الشعبي للحكومة في سياستها، والأهمّ الاندماج السلِس في الاقتصاد العالمي.
وبالتالي فإن الدوّل التي قامت بحذف أصفار من عملتها من دون تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة ومفهومة من قبل الشعب والأسواق، لم تُعط المفعول المرتقب فحسب، بل أدّت إلى تدهور العملة من جديد بعد فترة وجيزة. أكثر من 71 دولة حذفت أصفارا من عملاتها منذ العام 1960، وخلال الخمسين سنة الماضية، قامت 19 دولة بحذف أصفار من عملاتها الوطنية أكثر من مرّة (4 مرات في الأرجنتين، 5 مرات في يوغوسلافيا السابقة، 6 مرات في البرازيل، مرتين في بوليفيا، 3 مرات في أوكرانيا…). وتبقى البرازيل البلد الأوّل في العالم من ناحية إزالة الأصفار، حيث إن عدد الأصفار التي قامت بإزالتها من عملتها هو 18 صفرا!
وكما في حال طبع فئات أعلى من العملة، لحذف الأصفار تداعيات سلبية قد تكون كارثية كتأثير التضخم الناتج من تدوير الأسعار، تكلفة القائمة (Menu cost)، التأثير النفسي للنقص في الأجور، عودة الأصفار المحذوفة بعد فترة وجيزة، تكاليف إعادة إصدار العملة الجديدة، مشاكل في تحديد الأسعار على الأمد القصير، تدهور العملة وظهور التضخم، فشل المشروع في حالة عدم دعمه من قبل المواطنين، انخفاض الصادرات نتيجة لارتفاع قيمة العملة الوطنية…
من هذا المنطلق، نرى أن حذف أصفار من الليرة اللبنانية (مثلًا كل ليرة جديدة = 50 ألف ليرة قديمة) لن يكون فعالا، إلا إذا اقترن بخطّة اقتصادية واضحة، وسياسات مكافحة التضخم، وإجراءات تقشفية في الإنفاق العام، والانتظام المالي للدولة، كما ومحاولة التخلّص من العجز الطويل الأمد في الميزانية. وفي حال لبنان، يواجه اقتصاده وماليته ونظامه المصرفي أزمة معقدة، حلولها مغموسة بطعم سياسي مرّ، مما يجعل من شبه المستحيل على الحكومة اللبنانية تنفيذ عملية حذف الأصفار بنجاح.
في الختام، يبقى القول إن كلتا الطريقتين لا تُشكّلان حلًا للأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان، بل إن الطريق الوحيد للخروج من هذه الأزمة، هو عبر بسط سلطة الدولة العسكرية والأمنية والمالية على الأراضي اللبنانية، والقيام بإصلاحات جذرية تشمل مؤسسات الدولة والقطاع المصرفي والقطاع العام، علّ المستقبل يكون أفضل بالنسبة للأجيال القادمة.