هل يُراجع الترسيم الجديد بين لبنان وسوريا جميع الاتفاقيات السارية بين البلدين منذ عقود؟

كتبت دوللي بشعلاني في الديار:
لا شكّ بأنّ الحدود بين لبنان وسورية مرسّمة منذ أن أعلن المندوب السامي للإنتداب الفرنسي الجنرال هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير. ولترسيم حدود هذه الدولة أصدر قبلها بيوم واحد المرسوم رقم 318 اعتمد خلالها الحدود القائمة على أساس التقسيمات العثمانية. ورغم الاتفاقيات والمحاضر التي وُقّعت تِباعاً بين الدولتين خلال السنوات المتعاقبة، لم يتمّ إنهاء مسألة ترسيم الحدود البريّة والبحرية بين البلدين لأسباب سياسية، وعدم صدور أي محضر أخير لكلّ هذه الإتفاقيات مع الوثائق والخرائط يّرسل الى الأمم المتحدة لتثبيت هذه الحدود عسكرياً على الأرض بشكل نهائي.
واليوم مع توافر القرار الدولي في الأمم المتحدة لترسيم الحدود بين دول المنطقة، ومع تغيّر النظام في سورية، لا ينقص اكتمال هذا الملف، بريّاً وبحريّاً، على ما تقول مصادر سياسية مطّلعة، سوى وجود نيّة صافية وإرادة داخلية لبنانية-سورية فعلية، لا تُعيقها أي شروط. فضلاً عن منع تدخّل “إسرائيل” في مفاوضات الترسيم هذه سيما وأنها طامعة في الاستيلاء على أجزاء من أراضي هذه الدولة أو تلك، وترفض أي ترسيم لحدود دول المنطقة بل تريد إسقاطها جميعها لإقامة دولتها الكبرى التي تحلم بها منذ عقود. وتكتسي مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسورية، على ما تؤكّد المصادر السياسية، أبعاداً تاريخيّة وسياسية وإقتصادية، وديبلوماسية وإجتماعية عديدة. كما تجاذبتها، ولا تزال، شروط عديدة ومعوقات حالت دون تثبيتها، لا سيما مع النظام السوري القديم الذي كان يرفض حتى إثارة فكرة ترسيم الحدود بين البلدين، والذي لم يبتّ أمر لبنانية مزارع شبعا المحتلّة عند الحدود الجنوبية. ويُقسم الترسيم بين لبنان وسورية، على ما هو معلوم، إلى برّي وبحري.
ويُنتظر وضع هذا الملف على طاولة المحادثات المرتقبة بين الوفد السوري الأمني التقني (الذي تتوقّع أن يزور لبنان قريباً بعد أن جرى تأجيل زيارته مرات عديدة)، والوفد اللبناني الجاهز لبدء مفاوضات الترسيم مع سورية. ويدخل هذا الأمر ضمن عنوان “العلاقات اللبنانية -السورية” المدرج على الورقة الأميركية التي حملها المبعوث الاميركي توم برّاك إلى لبنان ووافقت عليه الحكومة اللبنانية بعد إدخال بعض التعديلات عليها. وبالعودة إلى ترسيم الحدود البريّة، تؤكّد المصادر العليمة، أنّ هناك اتفاقاً بين البلدين على العديد من النقاط على طول الحدود الممتدة على 375 كلم (او 233 ميلاً). ووصل عدد النقاط المتفق عليها بعد اجتماعات حصلت في العام 1967 بين البلدين إلى خمسة آلاف نقطة (ألف منها حدودية، و٤ آلاف ثانوية). من ضمنها الاتفاق على الحدود النهائية بين البلدين من العريضة حتى وادي خالد شمالاً. وثمّة حدود أخرى معترف بها بين البلدين لكن تبقى نقاط خلافية عليها تصل إلى 12 نقطة، من بينها وادي خالد وأكروم في لبنان. إلى جانب 21 نقطة لا يزال الخلاف الجغرافي قائماً عليها. فضلاً عن النزاع حول مزرعة دير العشاير في راشيا، والنخيلة في حاصبيا. وتمتدّ هذه النزاعات على مساحة نحو 200 كلم2 في كلّ من عكّار (نقطتان بمساحة 100 كلم)، بعلبك (20 نقطة على طول 155 كلم)، الهرمل (4 نقاط بمساحة 25 كلم)، زحلة (4 نقاط/30 كلم)، راشيا (4 نقاط/65 كلم)، وحاصبيا (نقطة واحدة على طول 50 كلم). ويُعتبر النزاع بين رأس بعلبك والنحلة الأشد تعقيداً بين سائر النقاط الخلافية.
كذلك وافق مجلس الوزراء في العام 1991 على الأسس الحدودية بين لبنان وسورية، وكلّ الوثائق والخرائط التابعة لهذه المحادثات موجودة لدى الطرفين. غير أنّه لم يتمّ إرسالها بمحضر أخير موقّع من الجانبين إلى الأمم المتحدة، لكي تُصبح حدوداً دولية نهائية. ولهذا يبقى الخلاف الحدودي البرّي على نقاط عديدة تصل إلى 35 نقطة حدودية.
وتلفت المصادر السياسية الى أنّ سورية، على غرار لبنان تعترف باتفاقية الهدنة (1949)، غير أنّ النظام الجديد أوعز إلى الوفد التقني الأمني بضرورة مراجعة جميع الإتفاقيات السارية بين البلدين منذ نحو 54 عاماً. وتكمن صعوبة ضبط الحدود الشمالية بين البلدين بوجود المعابر الحدودية غير الشرعية، وهذه تحتاج إلى دراسة معمّقة لضبطها أمنياً وعسكرياً. علماً بأنّ التأخير في حلّ النقاط الحدودية الخلافية يعرقل الخطة الأمنية التي يقوم الجيش اللبناني بتنفيذها، لا سيما لناحية مكافحة التهريب والتسلّل عبر المعابر غير الشرعية.
كما يبقى الخلاف قائماً بين البلدين على مزارع شبعا المحتلّة من قبل “إسرائيل”، والتي اعترف النظام السوري السابق شفهياً بلبنانيتها مرّات عديدة، دون أن يتمّ إرسال أي وثيقة رسمية بشأنها إلى مجلس الأمن الدولي.
أمّا في ما يتعلّق بالترسيم البحري، فيُمكن الحديث عن وجود “ربط نزاع” بين لبنان وسورية بشأنه. فقد قام لبنان في العام 2007 بترسيم حدود منطقته الاقتصادية الخالصة بشكل آحادي، وأودع مرسوم الترسيم لدى الأمم المتحدة في العام 2011. وأعتمد خلاله القواعد والمعايير المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولا سيما قاعدة خط الوسط. أمّا سورية، فقد سجّلت اعتراضها على الترسيم اللبناني في العام 2014، وأودعته لدى الأمم المتحدة. وقامت بدورها بترسيم آحادي حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع لبنان، واعتمدت مبدأ خط العرض. الأمر الذي خلق منطقة نزاع بحرية بين البلدين تتداخل مع البلوك 1 اللبناني، تبلغ مساحتها نحو 750 كلم2. وما عقّد الأمور أكثر هو مصادقة البرلمان السوري في العام 2021 على العقد الموقّع مع شركة “كابيتال” الروسية قبل سنة، والذي يمنح الشركة المذكورة الحقّ الحصري للتنقيب عن النفط والغاز في البلوكات السورية الحدودية الثلاثة، والتي يتداخل من ضمنها البلوك 1 مع البلوكات اللبنانية الشمالية.
ويُنتظر اليوم ما سيحمله الوفد السوري إلى لبنان في ما يتعلّق بملف ترسيم الحدود البريّة والبحرية بين البلدين. الأمر الذي سيكشف نوايا سورية الجديدة في المرحلة المقبلة، وإذا ما كانت فعلاً تريد حلّ الأزمات القائمة والعالقة بين البلدين، أم أنّها تريد استخدام هذه الأخيرة كورقة مهمّة في ملف التسوية الشاملة في المنطقة، ودورها المستقبلي فيها، وإعادة إعمار كلّ من البلدين.
واليوم إذا حصل الترسيم مع سورية، على ما تعقّب المصادر، سيتمّ الإنتقال إلى ترسيم الحدود، بحسب الورقة الأميركية، مع فلسطين المحتلّة أي مع “إسرائيل”… غير أنّ ذلك الأمر لن يحصل قبل تطبيق قرار الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة. والترسيم هنا يطال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي من بلدة الغجر المحتلّة. وتعمل واشنطن وفق ورقتها، بأن يتمّ حصر السلاح وترسيم الحدود مع سورية، على أن تُنتزع مزارع شبعا من لبنان، إذ يُحكى بأنّه ثمّة توافق بين أميركا وسورية على ألّا يُقرّ السوريون بلبنانيتها. أمّا الهدف فهو سحب ذريعة المقاومة من يدّ حزب الله. غير أنّ كلام الشرع عن أنّه: “لتنسحب “إسرائيل” من المزارع ولن نختلف مع لبنان عليها”، ينفي هذا الأمر بشكل قاطع.