لبنان

عرض البلوك 8 يؤخّر الاستكشاف سنوات إضافية: “توتال” تبتزّ لبنان

كتب وفيق قانصوه في الأخبار:

لمصلحة مَن يعمل وزير الطاقة جو الصدّي: لبنان، «توتال»، أم أطراف أخرى؟
السؤال تفرضه إجراءات اتّخذها الوزير المذكور، ضارباً بالقوانين عرضَ الحائط، ومعرّضاً سمعة لبنان النفطية للخطر، بما يضرّ بالمصالح الوطنية الاستراتيجية، وبما يبدو معه وكأنّ هناك من لا يريد لهذا العهد، كما لسابقه، أن يكون عهد استكشاف النفط، هذا إذا كان يُراد لهذا البلد أن يكون بلداً نفطياً أساساً. والتشكيك هنا منبعه أداء أطراف داخلية، بالتناغم والتكافل والتضامن، مع أطراف خارجية من بينها شركة «توتال» الفرنسية التي لعبت، ولا تزال، دوراً مشبوهاً في المراحل السابقة والحالية، أدّى إلى تأخير لبنان سنوات عن دخول نادي الدول النفطية.

فنزولاً عند طلب الشركة الفرنسية وابتزازها، تراجع الصدّي، مرتكباً مخالفات قانونية، عن السماح لشركة TGS النروجية الأميركية بإجراء مسح ثلاثي الأبعاد في البلوك الرقم 8 الذي يدرس مجلس الوزراء في جلسته غداً منح حق الاستكشاف والإنتاج فيه لشركة «توتال» نفسها، رغم ما يحيط بهذه الاتفاقية من أمور تثير الريبة. أكثر من ذلك، طرد الصدي TGS بعدما وصلت سفينة المسح التابعة لها إلى المياه اللبنانية، وبعد نيلها الموافقات اللازمة. ووفق مصادر متابعة، لم يحدث سابقاً في أي بلد في العالم، أن طُردت شركة مسح تحمل رخصة ولا تكلّف الدولة أيّ أعباء.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الشركة أجرت بين عامي 2006 و2013 مسوحات زلزالية ثلاثية الأبعاد غطّت نحو 80% من مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة البحرية للبنان، وعرضت هذه المسوحات على شركات الطاقة العالمية، ما أشغل الاهتمام بالاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز في البحر اللبناني.

ووفق الرخصة الممنوحة لها، تلتزم TGS بإجراء مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد لـ 1200 كلم مربّع في البلوك الرقم 8 (وهو البلوك الوحيد الذي لم يخضع لمثل هذا المسح بسبب الخلاف على الترسيم البحري مع العدو الإسرائيلي) بما يوفّر بيانات ثلاثية الأبعاد تسدّ الفجوة في المعلومات الجيولوجية حول هذا البلوك. كما تلتزم الشركة بمعالجة البيانات السابقة على امتداد البحر اللبناني مستخدمة تقنيات حديثة ومتطوّرة، إضافة إلى دمج كامل المسوحات السابقة وعرضها على شركات الاستكشاف العالمية، والترويج والتسويق لدورات التراخيص. والأهم أن عملها يساعد في كسب الوقت، إذ إن البلوك الرقم 8 سيكون بعد نتائج المسح جاهزاً للعرض وفق آلية «الحفر أو التخلّي» (Drill or Drop)، ما يختصر الفترة الزمنية التي تستغرقها الشركات لإجراء المسوحات قبل اتخاذ قرار الحفر.

ماذا يعني ذلك؟ باختصار، بدل أن تدخل «توتال» إلى البلوك 8 بعد إجراء المسح وتوافر البيانات لها بما يسمح لها ببدء العمل فوراً، قرّر وزير الطاقة اللبناني، ومن خلفه الشركة الفرنسية، تأخير أعمال الاستكشاف سنوات، إذ إن العرض الذي قدّمته «توتال»، والمُدرج على جدول أعمال مجلس الوزراء غداً، ينص على إجراء مسح «خلال 3 سنوات»، قبل أن تقرّر الشركة ما إذا كانت ستبدأ بعمليات الحفر!

تسلسل الأحداث

بناءً على اتفاق وقّعته أواخر 2024 مع وزير الطاقة والمياه السابق وليد فياض، ومُنحت بموجبه رخصة لإجراء مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد لـ 1200 كلم مربّع في البلوك الرقم 8، قدّمت شركة TGS، مطلع تموز الماضي، خطة المسح إلى وزير الطاقة الحالي، طالبة مراسلة الوزارات المعنية لنيل التراخيص اللازمة لمباشرة العمل. وبالفعل، أرسل الصدّي كتاباً إلى وزارة البيئة مستعلِماً عن تقييم الأثر البيئي لأنشطة الاستطلاع، وكتاباً آخر إلى وزارة الأشغال طالباً السماح لسفينة المسح والسفن المرافقة لها بدخول المياه اللبنانية. ردّت وزارة البيئة في 08/07/2025 بأنّ المطلوب فقط هو «تقييم الفحص البيئي الأوّلي» (IEE)، فيما أصدرت وزارة الأشغال التراخيص اللازمة. وعليه، كان يُفترض أن تبدأ الشركة أعمال المسح في 16/08/2025، إلا أنّها أرجأت ذلك بسبب التوتّر السياسي في تلك الفترة، إضافة إلى مشاكل في نظام الـGPS.

مطلع أيلول الماضي، قرّرت الشركة المباشرة بالعمل في 27 من الشهر نفسه بدءاً من البلوك 8، مستعينة بسفينة لها كانت تمسح في المياه المصرية. وعليه، قدّمت إلى وزارة البيئة تقرير الفحص البيئي الأوّلي في 12/09/2025، واستحصلت من وزارة الأشغال على رخص جديدة بعد مراسلتها عبر الصدّي نفسه.

وبالفعل، وصلت سفينة المسح Ramform Hyperion، المملوكة من TGS، فجر 27 أيلول إلى حدود البلوك 8 لإجراء المسح في البلوك خلال مدّة تُراوِح بين 8 أيام و11 يوماً، وانتظرت حتى صباح 29 أيلول، عندما صدرت الأذونات من وزارة الأشغال، ودخلت المياه اللبنانية، بانتظار موافقة وزارة البيئة على تقرير الفحص البيئي الأوّلي للمباشرة بالمسح السيزمي.

وفيما كان كل شيء يجري وفق المُتّفق عليه، غيّر وزير الطاقة فجأة مسار الأمور، وبدأ الضغط على شركة TGS لتوقف المسح. ولأن الطلب لم يأتِ بطريقة رسمية، ولحيازتها الأذونات اللازمة من وزارة الأشغال للتواجد في المياه اللبنانية، لم تنفّذ الشركة الأمر، وقرّرت انتظار موافقة وزارة البيئة. في اليوم التالي، في 1 تشرين الأول، قرّر الصدّي الذهاب أبعد في إرهاب الشركة، فأرسل إليها كتاباً جاء فيه أنه «بما أنكم متواجدون في المياه الاقتصادية اللبنانية، أطلب منكم اتخاذ قرار فوري بتأجيل المسح إلى تاريخ يُحدّد لاحقاً بالاتفاق بين الطرفين، لأسباب استراتيجية تتعلّق بالمصالح العليا للدولة واستثمار مواردها الطبيعية، ولتجنّب أي تعارض في المصالح بين جميع أصحاب المصلحة».

ورغم محاولات الرئيس التنفيذي للشركة الحصول على موعد من الصدّي لإجراء اتصال عبر الفيديو، رفض الأخير أيّ تواصل. ومع صدور موافقة وزارة البيئة على إجراء المسح، في 3 تشرين الثاني، أرسل ممثّل TGS نسخة عنها إلى هيئة إدارة قطاع البترول وإلى وزارة الطاقة، فردّ الصدّي بعد ساعة واحدة فقط برسالة إلى الشركة عبر البريد الإلكتروني (وليس برسالة رسمية)، جاء فيها: «إلحاقاً برسالتي السابقة المتعلّقة بتأجيل المسح في البلوك 8 لأسباب استراتيجية تتعلّق بالمصلحة العليا للدولة، وحيث إنّ سفينة المسح لا تزال داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية رغم استلامكم للرسالة، أطلب منكم رسمياً وقف جميع الأنشطة فوراً داخل المنطقة البحرية اللبنانية والمنطقة الاقتصادية الخالصة. وفي حال عدم امتثالكم، فسيضطرّني ذلك إلى إلغاء رخصة الاستطلاع، ومحاسبتكم عن أيّ أضرار تقع على الدولة (اللبنانية)». وفي هذا الـ«ايميل» ارتكب الصدّي مخالفة أخرى، إذ كان موجوداً خارج لبنان، ما يجعل الأمر من صلاحيات وزير الطاقة والمياه بالوكالة.

عندها، وبعدما بدا واضحاً للشركة أن كل الأبواب أُغلقت في وجهها، طلبت من سفينة المسح مغادرة المياه اللبنانية باتجاه ميناء ليماسول القبرصي (غادرت المياه الاقتصادية اللبنانية يوم السبت 4 تشرين الأول 2025)، تنفيذاً لطلب الصدّي بالمغادرة الفورية، مخالفةً القوانين اللبنانية التي تستلزم استحصالها على إذنٍ للمغادرة. وبعد أيام، في الثامن من تشرين الجاري، بدأت إجراءات قانونية لمطالبة الدولة اللبنانية بتعويضات، لتسبّبها بخسارة مالية قدّرتها بـ4,5 ملايين دولار، ولمنعها من إتمام موجبات الرخصة من دون أي مبرّر قانوني أو منطقي، ما تسبّب بخسارة مالية لها، نتيجة حرمانها من تقاسم أرباح بيع بيانات المسح مع الدولة اللبنانية.

فتّش عن «توتال»

ما الذي حدث بين بداية شهر أيلول، وبعد الثاني عشر منه عندما أرسل الصدّي كتاباً إلى وزارة الأشغال يطلب فيه السماح لـ TGS ببدء العمل، وحتى 29 أيلول عندما انقلب على الشركة طالباً منها المغادرة؟

عندما علمت شركة توتال من مصدر لها في بيروت أنّ شركة TGS عزمت على إجراء المسح السيزمي للبلوك 8 خلال أسابيع بل أيام، سارعت إلى إرسال عرض «سخيف» للبلوك 8 بتاريخ 5 أيلول 2025 ضمن «جولة التراخيص الثانية» المنتهية، يتضمّن إجراءها المسح ذاته خلال ثلاث سنوات من دون إجراء أي عملية تنقيب في المدة الاستكشافية الأولى.

في 15 أيلول زار وزير الطاقة باريس للقاء باتريك بوياني، الرئيس التنفيذي لـ«توتال» لمناقشة عرضها للبلوك 8، بعدما شابت شبهات كثيرة عملها الاستكشافي في البلوك الرقم 9، وخلصت إلى خلوّ مكمن قانا المحتمل من النفط والغاز. وعقب عودته، ادّعى الصدّي أن «توتال» هدّدت بوقف كلّ أعمالها في لبنان في حال حصول المسح، فيما أبلغ ممثّل «توتال» في لبنان، رومان دو لا مارتينييه، هيئة قطاع البترول، أن شركته لن تلزّم TGS المسح في البلوك 8 بل ستجري مناقصة لهذه الغاية.

‌والسؤال الأساس هنا: إذا كانت «توتال» غير مُلزمة قانونياً أو تعاقدياً بشراء بيانات المسح من TGS، وبإمكانها إجراء المسح بنفسها مجدّداً بعد نيلها رخصة الحقّ البترولي في البلوك، لماذا إصرارها على منع الشركة من العمل؟
الأجوبة على السؤال كثيرة، منها:

– أن امتلاك لبنان لبيانات سيزمية عالية الجودة يعزّز موقعه التفاوضي عند تلزيم حقوق الاستكشاف، وقدرته على تقييم الموارد بناءً على مرجعية مستقلّة لا تخضع لتقديرات الشركات الخاصة وحدها. والحصول على بيانات البلوك 8 كان سيمنح لبنان ورقة قوة إضافية في التفاوض مع «توتال»، ولا سيّما أن TGS كانت ستنجز دراسة أولية خلال شهرين فقط، أي قبل نهاية دورة التراخيص الثالثة، ما كان سيتيح قراءة موضوعية لقيمة البلوك، خصوصاً أن العرض التجاري الذي قدّمته «توتال» استند إلى تقديرات متحفّظة جداً تفترض وجود اكتشافات صغيرة.

– أن الحصول على بيانات دقيقة عن جزء من مكمن قانا 31/1 ومحيطه في البلوك 9 سيضع «توتال» في موقف حرج بعدما قرّرت الانسحاب من البلوك، إذ كانت تلك البيانات ستكشف بوضوح حجم الموارد المحتملة، وتُضعف مبرّرات تخلّي الشركة عن التزاماتها التعاقدية.

– أن رخصة المسح تُلزم TGS بتسويق البيانات اللبنانية على نطاق دولي، ما يجذب اهتمام كبريات شركات الطاقة العالمية، الراغبة في الاطّلاع على المعطيات الجيولوجية الجديدة للبلوك 8 والبلوكات المجاورة، ويؤدي إلى وضع قطاع البترول اللبناني مجدّداً على خريطة الاستثمار العالمي، وهو أمر ليس في مصلحة «توتال» التي تريد إبقاء لبنان حكراً عليها.

غير أنّ الأخطر هو أنّ «توتال» تشتري الوقت على حساب المصلحة اللبنانية، مُهدِرةً سنواتٍ ثمينة من دون تحقيق أيّ تقدّم فعلي، في إطار أهدافٍ جيوسياسية واضحة، أبرزها:

– إعطاء الأولوية للعدو الإسرائيلي في أعمال المسح والاستكشاف والإنتاج في المنطقة البحرية المقابلة جنوب الخط 23، ولا سيما في البلوك 8، الذي يُطلق عليه إسرائيلياً اسم (Zone i)، والذي قام العدو بتلزيمه لتحالف شركات BP البريطانية وSocar الأذربيجانية وMed-Energy الإسرائيلية، من دون أن يُجرى فيه أيّ مسح حتى الآن.
– منع لبنان من التحوّل إلى بلدٍ منتجٍ للنفط والغاز، لما يحمله ذلك من انعكاسات اقتصادية وسيادية كبيرة، كتحسين التصنيف الائتماني، والحصول على تسهيلات مالية دولية، بما يؤدي إلى فكّ الحصار المفروض عليه من قِبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والولايات المتحدة والسعودية.

– تتجه «توتال» إلى التخلّي عن البلوك 9، بما في ذلك مكمن قانا، من خلال إعلانها – في تقرير نهاية البئر الاستكشافية الأولى – أنّها حفرت الطبقات المُستهدفة وأنّ المكمن فارغ. وسيفتح انسحابها من هذا البلوك الباب أمام العدو الإسرائيلي للبدء بالحفر في حقل قانا من الجهة الواقعة جنوب الخط 23.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ شركة «إنرجيان» اليونانية، المُشغِّلة لحقل «كاريش»، كانت قد أبلغت وزير الطاقة السابق وليد فياض بأنّ المسوحات التي أجرتها جنوب الخط 23 أظهرت في مكمن قانا مؤشّراً مباشراً (DHI) إلى وجود الهيدروكربونات (النفط والغاز) على عمق 4,330 متراً، وعرضت مراراً تلزيم فرعها اليوناني العمل في هذا المكمن. وتبدو «إنرجيان» اليوم المرشّح الأبرز للشروع بالحفر في مكمن قانا من جهة البلوك 72 الإسرائيلي إذا ما اتّخذ العدو قراراً بذلك، ما يعني أنّ لبنان مُهدّد بخسارة حقلٍ واعدٍ لمصلحة إسرائيل، نتيجة تراخي «توتال» وسوء إدارة الملف لبنانياً.

أداء مشبوه: إخفاقات فنّية أم تقصير مقصود؟

في 3 تشرين الأول الجاري، سلّم ممثّل «توتال» في لبنان، رومان دو لا مارتينييه، هيئة إدارة قطاع البترول تقرير نهاية البئر الاستكشافية الأولى في مكمن قانا ضمن البلوك 9.

وجاء في التقرير أنّ الشركة «حفرت الطبقات المُستهدفة»، وأنّ النتائج أظهرت أنّ المكمن «خزّان فارغ من الغاز ويحتوي على مياه»، مشيراً إلى أنّ «الطبيعة الجيولوجية للخزّان مماثلة لتلك الموجودة في المياه الفلسطينية المحتلة وفي حقل كاريش». ووفق التقرير، فإنّ هذا الخزّان «تعرّض عبر الزمن لتشقّقات ناتجة عن فالق جيولوجي، ما أدّى إلى تسرّب الغاز منه ودخول المياه إليه». وأبلغ دو لا مارتينييه الهيئة أنّ توتال تعتزم إعلان تخلّيها عن البلوك 9 بالتزامن مع نيلها الحقّ البترولي في البلوك 8.

غير أنّ خبراء متخصّصين اطّلعوا على نتائج الحفر في البئر الاستكشافية في قانا 31/1 وأداء شركة «توتال» في البلوك الرقم 9، أشاروا إلى سلسلة من الإخفاقات الفنية والإدارية التي تثير تساؤلات جدّية حول مدى التزام الشركة الفرنسية بعمليات استكشاف جدّية وشفّافة في المياه اللبنانية، وهي كالتالي:

– ارتكبت الشركة أخطاء فنية جسيمة خلال عملية الحفر، بدءاً من ضعف دقة التحليل الزلزالي، إذ بلغ الفارق بين التوقّعات والنتائج الفعلية نحو 240 متراً، مقارنة بـ 68 متراً فقط في سماكة طبقات تمار C.

– تبيّن وجود سوء تخطيط جيولوجي واضح من قبل الشركة، لعدم أخذ تأثير الفوالق التكتونية في الاعتبار، رغم توفّر مؤشرات مماثلة من حقل «كاريش» المجاور.

– توقّف عمليات الحفر مبكراً عند عمق 3,905 أمتار بدلاً من العمق المخطّط له 4,440 متراً، ما حرم المشروع من استكشاف الطبقات الأعمق ذات الإمكانات المحتملة.

– رغم وجود مؤشرات إلى نفاذية عالية بلغت «310 ملّي-دارسي»، وظهور آثار هيدروكربونية، لم تُجرِ «توتال» اختبار إنتاج شامل للتأكد من الجدوى التجارية، وهو إجراء أساسي في مثل هذه الحالات.

– ‌تشير الإحصاءات العالمية إلى أن معدّل النجاح في الآبار الاستكشافية العالية التأثير يُراوِح بين 27 و30% فقط. وانخفضت معدّلات النجاح التجاري في المياه الفائقة العمق (أكثر من 2,500 متر) من نحو 20% في الفترة 2010-2014 إلى 3% فقط بين عامي 2020 و2024. هذه الأرقام تعكس صعوبة تحقيق اكتشافات تجارية في المياه العميقة، لكنّها في الوقت نفسه تجعل قرار «توتال» بوقف جميع الأنشطة في البلوك 9 من دون التخطيط لحفر بئر ثانية غير منطقي استراتيجياً، خصوصاً في ضوء الموقع الجيولوجي الواعد.

– التوقيت المريب للقرارات، إذ تمّ الإعلان عن توقّف الحفر في البلوك 9 بعد أربعة أيام فقط من اندلاع عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، ما يثير شبهات حول خلفيات سياسية للقرار.

– تأخّر الشركة في تسليم تقرير نهاية البئر نحو 729 يوماً بعد وقف أعمال الحفر، رغم أنّ المهلة القانونية القصوى هي 180 يوماً. ودفع هذا التأخير وزير الطاقة السابق وليد فيّاض إلى رفع توصية إلى مجلس الوزراء بضرورة توجيه إنذار رسمي إلى الشركة، كون التأخير يوحي بوجود دوافع سياسية أو تجارية غير مُعلنة.

– انعدام الشفافية، إذ ‌اتّخذت «توتال» معظم قراراتها بشكل أُحادي، من دون تنسيق كافٍ مع هيئة إدارة قطاع البترول أو وزير الطاقة اللبناني، ولم تقدّم توضيحات كافية حول أسباب وقف الحفر المبكّر، بل أظهرت ارتباكاً واضحاً في تعاملها مع الأمر.

– البلوك الرقم 9 من أكثر البلوكات اللبنانية احتمالاً لوجود اكتشاف تجاري فيه، نظراً إلى قربه من الحقول المُكتشفة في المياه الفلسطينية المحتلة وتشابه تركيبه مع تركيبها الجيولوجي. وقرار «توتال» بإنهاء أعمالها من دون حفر آبار إضافية يوجّه ضربة إلى فرص تلزيم البلوك لشركات أخرى مستقبلاً، إذ يقلّل من جاذبيته الاستثمارية.

– تأخير تقديم التقرير الفني المُفصّل حرم الدولة اللبنانية من بيانات حيوية لاتخاذ قرارات مستنيرة في الجولات المقبلة من التراخيص البترولية، ما يؤثّر سلباً على قدرة لبنان في جذب الاستثمارات الجديدة في هذا القطاع الاستراتيجي.

أداء «توتال» المشبوه في البلوك 9، وفي البلوك 4 (نقلت مكان البئر حوالي ستّة كيلومترات وحفرت على ما يسمّى «حافّة المكمن») لا يرقى إلى مستوى الممارسات الدولية المعتادة في الاستكشاف النفطي، ويشير بوضوح إلى نوايا تسويفية متعمدة.

لذلك، يتوجب على الدولة اللبنانية الضغط عبر الجهات الدولية ذات الصلة بالملف (فرنسا وقطر) لعدم ترك البلوك 9 بهذا الشكل الذي ينطوي على توهين بالموارد اللبنانية، وإجراء أعمال حفر استكشافية أخرى في هذا البلوك. كما ينبغي إجراء مراجعة جذرية للعلاقة التعاقدية مع الشركة لضمان الاستغلال الأمثل للثروة النفطية، وعدم السماح لها بالمشاركة في مناقصات أو دورات تراخيص جديدة قبل تسوية التزاماتها الحالية، إضافة إلى تنويع المشغلين وتقليل الاعتماد على الشركة الفرنسية في العمليات المستقبلية.

عرض يفتقر للشرعية القانونية والفنية

العرض الذي قدّمته «توتال» للبلوك 8 ضمن دورة التراخيص الثانية لا يقوم على قاعدة قانونية صلبة تُجيز اعتماده. ما يبدو مناورة تفاوضية بين شركة ودولة، هو في جوهره مسألة إجرائية وقانونية تمسّ شروط المنافسة ومبدأ سيادة الدولة على ثروتها. لفهم الملف لا حاجة إلى لغة قانونية مُعقّدة؛ يكفي قراءة نصوص القرار الحكومي ودفتر الشروط وقانون تعليق المهل، ومراجعة تفسير مرجع قانوني ودستوري موثوق.

في 12 كانون الثاني 2024 أصدر مجلس الوزراء (القرار الرقم 2) الذي وضع التزامات واضحة على المتقدّمين للحق النفطي في البلوك 8: على أصحاب الحقوق أن يعلنوا خلال ثلاثة أشهر من توقيع اتفاقية الاستكشاف والإنتاج ما إذا كانوا سينفّذون مسحاً سيزمياً ثلاثي البُعد، وأن ينجزوا هذا المسح خلال سنة تبدأ بعد انقضاء الأشهر الثلاثة. اعتُبر المسح حداً أدنى من موجبات العمل في المدّة الاستكشافية الأولى، مع نصّ صريح: «عدم الالتزام يُفقد أصحاب الحقوق الرخصة». كما فوّض القرار وزير الطاقة توقيع الاتفاقية بالشكل النهائي، وفتح باب تفاوض ملزِم لتحسين حصة الدولة إذا ثبت وجود اكتشاف تجاري يتجاوز التقديرات الواردة في العرض.

على ضوء دفتر الشروط الملازم (الملحق الرقم 1 من المرسوم 4918)، وبالأخص الفقرة 17.4، كانت «توتال» مُلزمة بتقديم اتفاقية الاستكشاف والإنتاج موقّعة أصولاً خلال ثلاثين يوماً من صدور القرار، مرفقة بكفالات الشركة الأم وضمان الالتزام بموجبات العمل. هذا بند موضوعي لا يُحتمل تجاوزه: هو الحاجز الذي يميّز العرض الجادّ عن وعودٍ شفهيّة لا تستند إلى ضمانات تنفيذية. ومع ذلك، لم تُقدّم توتال الاتفاقية الموقّعة ولا الكفالات المطلوبة في المهلة الملزِمة.

صدر قانون تعليق المهل (قانون رقم 328/2024) الذي علّق عموماً المهل بين 8/10/2023 و31/3/2025، لكنه نصّ صراحة على استثناء جوهري: «المهل الممنوحة من الإدارة أو المحدّدة من قبلها تبعاً لسلطتها الاستنسابية» لا تُدرَج في التعليق. هذا الاستثناء هو مفتاح المسألة: إذا كانت المهلة المنصوص عليها في القرار الحكومي من قبيل المهل الإدارية الخاضعة لسلطة التقدير، فإنها تبقى خارج نطاق التجميد العام. وقد فسّر بعضهم لاحقاً المهلة على أنها مُعلّقة فعلياً حتى ما بعد 31/3/2025، فظهرت رسالة نوايا – فقط – من «توتال» في 28/4/2025 وكأنها فعلت المتوجّب عليها ضمن مهلة ممتدّة! لكنّ هذا التفسير الضعيف يتجاهل طبيعة الاستثناء الإداري ويضع الدولة في موقف ضعيف أمام الطعن القضائي.

وبعد 130 يوماً، في 5 أيلول 2025، تقدّمت «توتال» بعرضها للبلوك 8 دون البلوك 10! ولتثبيت القراءة القانونية نقتبس حرفياً رأي الخبير الدستوري والقانوني عصام إسماعيل، كما ورد نصاً: «إنّ مرسوم إقرار دفتر الشروط هو مرسوم تنظيمي، ومن المعروف أنّ السلطة التنظيمية هي أحد أبرز أوجه السلطة الاستنسابية، وإن أصدرت تنظيماً وحُدّدت بمقتضاه مهلة، فهذه المهلة تخضع “لاستنساب الإدارة” وبالتالي فإنّ المهلة الممنوحة بموجب القرار 2 تاريخ 12/01/2024 هي خارج تعليق المهل».

هذا الاقتباس ليس تفسيراً سياسياً بل قراءة قانونية مباشرة لمدى انطباق قانون تعليق المهل على المهلة الإدارية المحدّدة بقرار مجلس الوزراء. ومتى ما صحّ هذا الاستنتاج، يصبح أي قبول لعرضٍ مرّ بعد انتهاء هذه المهلة إجراءً قابلاً للطعن أمام الجهات القضائية والإدارية المختصّة.

المسألة لا تقتصر على انقضاء المهلة فحسب؛ العرض نفسه شكلاً ومضموناً لا يطابق ما نصّ عليه القرار الحكومي. العرض التقني جاء متأخّراً ومغايراً: بدلاً من المسح خلال سنة، اقترحت الشركة مهلة ثلاث سنوات. أمّا العرض التجاري فأسوأ من كل العروض السابقة، ويتضمّن شروطاً ترفع سقف استرداد «بترول الكلفة» من 65% إلى 80%، والعامل «ر» من 3 إلى 4، وتقلّص حصّة الدولة عند حصول اكتشاف أكبر ممّا افترضته الشركة. بكلمات بسيطة: إذا كان الاكتشاف أكبر، ستُحتسب نسبة حصّة الدولة وفق «الحجم الأصغر» الذي افترضته الشركة، ما يُضعف نصيب لبنان من بترول الربح.

الشكليات هنا ليست تفاصيل ثانوية؛ إنها آليات حماية للمال العام وحقوق الشعب والأجيال. قبول عرضٍ في ظرف قانوني معيب يمهّد لثغرات تمنح الشركات فسحات لتقليص التزاماتها أو لمساءلة الدولة لاحقاً على خلفية تأويلات إجرائية. كما أن الإبقاء على ثغرة تفسيرية حول تطبيق قانون تعليق المهل يجعل الدولة مُعرّضة للطعن ويضعف موقفها التفاوضي أمام محاكم ومراجع دولية.

لذلك، على مجلس الوزراء استطلاع رأي شورى الدولة حول مدى انطباق قانون تعليق المهل على المهلة المحدّدة بالقرار الرقم 2 تاريخ 12/01/2024 قبل أي قرار نهائي. كما ينبغي إعادة الملف إلى وزير الطاقة ومنه إلى هيئة إدارة قطاع البترول لتتولّى الإدارة الفنية والتفاوض وفق أطر القانون ودفتر الشروط «ضمن دورة الترخيص الثالثة» وليس الثانية، مع اشتراط تقديم الاتفاقية موقَّعة والكفالات الملزمة قبل أي اعتماد، إذ لا يجوز إتمام أي تلزيم أو توقيع اتفاقية إلّا بعد حسم المسألة القانونية قضائياً أو إدارياً عبر شورى الدولة، ومع ضمانات فنّية ومالية واضحة، وشروط اقتصادية عادلة، تحفظ حقوق الدولة وتمنع أيّ إشكال أو غبنٍ في المستقبل.

جوزيف الصدّي: تجاوز صلاحيات وتهديد سيادة وتفريط بالحقوق

ما جرى في ملف مسح البلوك 8 ليس مجرّد خطأ إداري عابر، بل تجاوز واضح لصلاحيات وزير الطاقة جوزيف الصدّي، على حساب قواعد الحوكمة وحقوق الدولة والأجيال القادمة. استمرار هذا المسار يعني فقدان بيانات وطنية، وخسائر مالية، وتعرُّض الدولة لمطالبات وتعويضات؛ كل ذلك على وقع قرارٍ اتُّخذ خارج الإطار الفني والإجرائي المطلوب.

تنصّ المادة 66 من الدستور على أنّ الوزراء «يديرون مصالح الدولة ويطبّقون القوانين»، أي أنّ دور الوزير سياسي وإداري، لكنه يلتزم بالحدود القانونية والآليات المؤسّسية. وفي قطاع النفط، تُناط بهيئة إدارة قطاع البترول (LPA) الفنية المستقلّة مهام تقييم العروض وإدارة التراخيص وفق قواعد فنية وقانونية. ولا تمنح المادة أو القوانين المختصّة الوزير سلطة إلغاء استقلالية هذه الهيئة أو تجاوز إجراءاتها بشفهيات أو تصرّفات استنسابية.

بناءً على الوقائع الموثّقة، ارتكب الصدّي مخالفات جسيمة، منها تجاوز دور الهيئة الفنية في إصدار قرارات تأجيل/إيقاف مسح من دون توثيقٍ قانوني أو مبرّرات فنية مكتوبة؛ والتفاوض المنفرد مع شركات وممثّلين من دون مشاركة الهيئة أو توثيق رسمي؛ وإصدار توجيهات إدارية في أثناء غيابه عن لبنان وعبر قنوات غير رسمية، ما يقوّض مبادئ الشفافية والمحاسبة.

وهذه سلوكيات لا تُعدّ اختلالات إجرائية فحسب، بل تضع الوزارة أمام مسؤولية مباشرة عن التبعات المادية والمعنوية، ومنها خسارة بيانات مسح حيوية يمكن أن تعزّز موقف الدولة تفاوضيّاً وماديّاً، وفتح باب دعاوى تعويضية، وإضعاف ثقة المستثمرين وسمعة لبنان كبيئة استثمارية، وإلحاق ضرر دائم بموقع الدولة في مفاوضات التلزيم القادمة.

تُحمّل الوقائع المسؤولية القانونية والسياسية للوزير، وقد تستتبع مسؤولية إدارية ومالية أمام ديوان المحاسبة، ودعاوى مدنية وتعويضية أمام المحاكم، وإحالة مسائل جسيمة إلى النيابات المختصّة (النيابة العامة المالية أو النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة) إذا توافرت مؤشّرات سوء إدارة أو تفريط. كما أنّ شبهة تجاوز الصلاحيات قد تستدعي تحقيقاً نيابياً وإجراءات رقابية فورية.

كما ينبغي استدعاء وزير الطاقة وأعضاء هيئة إدارة قطاع البترول للمثول أمام لجنة الأشغال والطاقة النيابية لتقديم إفادات موثّقة عن سير الإجراءات والقرارات، وفتح تحقيق إداري وقضائي فوري لدى الجهات الرقابية والقضائية المختصّة للوقوف على مدى مشروعية القرارات، وتعليق أي إجراءات تلزيم نهائية أو توقيع عقود ذات صلة إلى حين حسم الشقّ القانوني والفني وتقديم ضمانات لا لبس فيها تحفظ حقوق الدولة.

تداعيات القرارات الارتجالية للصدّي

يمثّل المسح الذي منع وزير الطاقة والمياه جو الصدّي شركة TGS من إجرائه مصلحة وطنية استراتيجية كبرى على أكثر من صعيد، إذ إنه:
– يتيح للبنان الحصول على بيانات دقيقة لمسح سيزمي ثلاثي الأبعاد لبلوك حيوي (البلوك 8) لم يُمسح سابقاً، إضافة إلى جمع بيانات مماثلة لأجزاء من بلوكات أخرى لم تُمسح سابقاً، أو تتطلّب مسحاً تفصيلياً لأهميتها الاستكشافية، ومنها أجزاء من البلوك 9، ومكمن قانا بالكامل (كان مرور سفينة المسح به حتمياً لقربه من حدود البلوك 8، مع التخطيط للتحرك شرقاً وغرباً لتفادي تجاوز الخط 23)، وأجزاء واسعة من البلوك 5 (وهو وفق التقديرات الأكثر أهمية في لبنان)، إضافة إلى أجزاء متفرّقة من بلوكات أخرى وصولاً إلى البلوك 4، الواقع فوق المكمن الذي كانت «توتال» قد حفرت فيه سابقاً.

– تتيح بيانات البلوك 8 للبنان فهماً أعمق لجيولوجيا البحر اللبناني، ولا سيما أن TGS كانت تجري دراسة متقدّمة حول البنية الجيولوجية استناداً إلى نتائج أعمال الحفر في البلوكين 4 و9، ما كان سيعزّز القدرة على تقييم الثروة الغازية والنفطية بدقّة علمية أكبر.
– رخصة المسح غير الحصرية تُلزم TGS بتسويق البيانات اللبنانية على نطاق دولي، ما يجذب اهتمام كبريات شركات الطاقة العالمية، الراغبة في الاطّلاع على المعطيات الجيولوجية الجديدة للبلوك 8 والبلوكات المجاورة.

– تسويق بيانات المسح سيوفّر دخلاً مباشراً للخزينة اللبنانية، إذ إن بيع TGS لبيانات البلوك 8 كان سيدرّ إيرادات تُحوّل إلى الصندوق السيادي وفق قانون إنشائه. وكان من المُنتظر أن تكون «توتال» أول المشترين لتلك البيانات، باعتبار أن شراءها يكلّف خُمس كلفة تنفيذ المسح من الصفر. وبالتالي، فإن امتناعها عن الشراء كان سيضعها أمام ضغط داخلي لتبرير إنفاق إضافي غير مبرّر على مسح يمكن الحصول على بياناته من شركة عالمية معتمدة بكلفة أقل بكثير.

– قيام «توتال» بنفسها بإجراء المسح للبلوك 8 سيحمّل الخزينة اللبنانية تكاليف إضافية في حال تحقّق اكتشاف، إذ ستُحتسب كلفة المسح ضمن ما يُعرف بـ«بترول الكلفة» عند بدء الإنتاج، أي من حصة لبنان المستقبلية.

– الأرجح أن توتال ستحجب بيانات المسح السيزمي عن الجانب اللبناني، ما يحول دون استفادة لبنان من المعلومات الجيولوجية التي تمسّ مباشرة ثروته الوطنية.

– توفّر معلومات دقيقة وموثوقة حول الموارد البحرية اللبنانية يُضعف محاولات الطرف المقابل أو أطراف إقليمية استغلال الفراغ المعلوماتي أو فترة الجمود السياسي والاقتصادي لتمرير مشاريع أو أعمال ميدانية تضرّ بالمصلحة اللبنانية أو تمسّ حقوقَ لبنان السيادية في البحر.
– تكمن أهمية تنفيذ المسح بسرعة وشفافية في أنّ ذلك يضمن ملكية الدولة الكاملة للبيانات ويمنع الاحتكار التجاري أو تسريب المعلومات لمصلحة جهة واحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى