لبنان
أحمد قبلان: لتشكيل حكومة إنقاذ غير متمسّكة بشرق أو غرب إلا بما يخدم استقرار لبنان
وجّه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان رسالة العاشر من المحرم، من مكتبه في دار الإفتاء الجعفري، جاء فيها: “في مثل هذا اليوم من تاريخ عذابات الأنبياء والأولياء، قام الإمام الحسين مع أهل بيته وأصحابه في كربلاء بمواجهة جيش أموي جرار، أراد له سيد الشهداء أن يكون لله، وأراد له يزيد أن يكون لأمية وملكيتها. كان شعار الإمام الحسين الحق والإصلاح، وحماية السلطة من فساد الحاكم، وتأكيد قيمة الإنسان كمخلوق لله، له حقوقه الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والإيمانية، وذلك كحق واجب على السلطة. أما شعار يزيد فكان أن الناس جند مسخرة في خدمة بني أمية تم تكريسها لخدمتها وخدمة مشاريعها. ولأن عظمة سيد الشهداء بلغت حدا قرن الله تعالى أجر الدين بمودته بصريح قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)، وعبر عنه نبينا الأكرم بقوله الشهير الذياع حسين مني وأنا من حسين، من أحب حسينا أحبني ومن تبرأ منه تبرأ مني”. ولذا تهيبت أمية قتله بداية الأمر. ولكن مع إصراره على ضرورة تطويع السلطة لخدمة الإنسان، وتجييرها لصالحه، وتأكيد قيمته الرئيسية، ومنع الفاسد من السلطة، وإدانة السلطة الجائرة والفاسدة، أقبلت أمية بجيوشها تحت شعار إنما نقتلك بغضا منا لأبيك علي، وتكريسا لعقلية أمية بالملك، فقابلهم الإمام الحسين بشعار هيهات منا الذلة، وبشعار لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا ما دمنا على الحق”. وكان منه ذلك التسليم المطلق لله تعالى، متوجها إليه بلسان حاله، خذ يا رب حتى ترضى، فما انجلت المعركة إلا ورأس الحسين فوق الرمح، وسنابك الخيل تطحن عظام صدره وظهره، وسط رؤوس مرفوعة فوق القنا، وأجساد ممزقة، وأشلاء تملأ بيداء كربلاء، وصيحة العقيلة زينب تملأ واديها وهي تقول وا محمداه، هذا ولدك الحسين، مقطوع الرأس، موزع الأعضاء، ذبيح من القفا، قتيل أهل الخنا، وهذه نساؤك سبايا، فإلى الله المشتكى، وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى، من قوم قتلوا ابن بنت رسول الله، وتنكروا لله ونبيه بأهل بيته المطهرين. ومع كربلاء، كتب الإمام الحسين معركة الحق، وعظمة الإنسان، وقداسة حقوقه، بوريده الأعز على الله، فثارت الناس وتهيبت مقتل الحسين، وعظم أمره، وتفجعت الخلائق، فخرجت الأقطار والنواحي من أيدي أمية، ثأرا لسيد الشهداء. وبدا عندها السبط الشهيد قاتلا لأمية وملكها، سيدا بحياته وشهادته، أبيا للضيم، قويا بذات الله، صريحا بضرورة قداسة الإنسان في هذه الأرض، حيا بشعاره ومبدئه، وها هو من وراء قبته العظمى التي تحولت حجا لملائكة السماء، ومطافا لأهل الأرض، يحرك بشفتيه أباة هذا العالم، وأحرار هذه الأرض، تاليا عليهم حقيقة أنهم من الله وإليه، وأن الإنسان قيمته بمبدئه، وقداسته بحقيقته، وأن القتل في الله أعظم النصرين، وأن السلطة ضرورة بمقدار خدمة الناس، وتأمين حاجاتها، أما إذا تحولت احتكارا وحكرا على الحاكم صارت عدوا لناسها ولأمتها ولدينها، وهو ما تأكد في هذا البلد، فلعقود طويلة كانت السلطة فاسدة في لبنان الذي أفلس وانهار جراء الفساد وسلطة الاحتكار، بعدما حصصت الدولة، وتقاسمت وتصافقت ونهبت وبددت، وحولت البلد مزرعة، والناس قطعانا تغزوها الذئاب الكاسرة وزبائنيتها من ثعالب هذا الزمن، الذي قل فيه الديانون، وكثر فيه المتاجرون والمسمسرون والمنافقون وعديمو الأخلاق، الذين يلوكون الشعارات، ويخادعون الناس، لا شفقة في قلوبهم، ولا رحمة، إنهم يزيديو هذا الزمن، إنهم القتلة، إنهم مصاصو دماء الفقراء، بعدما أفرغوا مالية الدولة وجيوب المساكين، ولا زالوا على غيهم وظلمهم وفسادهم، ثابتين على نهجهم التدميري والتفقيري والتجويعي، لا يرف لهم جفن، ولا أمل في ضمير يصحو”.
وأضاف: “في ذكرى الاستشهاد، ذكرى الانتصار للحق، نقولها بكل صراحة ووضوح: إن البلد غارق بالطائفية والمذهبية، طائفية السلطة، وطائفية الدستور، وطائفية الإعلام، وطائفية الوظيفة، وطائفية المسؤولية، وطائفية الشوارع، وطائفية إحراق المباني وقطع الطرق؛ البلد طائفي ومذهبي بامتياز، وهذا ما سيدمره، إذا لم تصحوا أيها اللبنانيون، البلد سيزول، إذا لم نسارع إلى الخلاص من هذا الوباء الطائفي الذي صنعته سلطة لا تعرف الله ولا تخافه، سلطة ظالمة طاغية متجبرة، سلطة استكبارية استبدادية، وسط فوضى دستورية وهيمنات هنا وهناك ومافيات في كل الأمكنة والميادين. وهذا ما نرفضه ويرفضه كل الشعب اللبناني، الذي تأكد له – ولو متأخرا – أن البلد لا يقوم بهكذا ذهنية ولا بهكذا سلطة، ولا بهكذا عقلية سياسية وطائفية متحجرة، هذا نظام فاسد، قلناها ونقولها ونؤكدها، هذا نظام لا يبني وطنا، ولا يقيم دولة، ولا يحمي شعبا، هذا نظام مزارع وعصابات سياسية، ولبنان واللبنانيون يستحقون نظاما بديلا، يستحقون نظاما متطورا، وعقدا اجتماعيا جديدا، يضمن حق المواطنة لكل لبناني، نظاما لا طائفيا ولا ماليا، بل نريده نظاما سياسيا اجتماعيا ماليا، لا ظلم ولا غبن فيه، ولا مقاطعات ولا إقطاعيات ولا فدراليات، إنما نريده وطنا نهائيا لجميع أبنائه، وطن التنوع والتآلف والعيش المشترك، لا وطن الصفقات والسمسرات”.
وتابع: “نعم نريد نظاما من دون قضاء فاسد، ودون تعيينات أمنية وإدارية بحمايات طائفية ومناطقية، نريد الكفاية بالمطلق، نريد أن يعيش المسلم والمسيحي جنبا إلى جنب، إخوة في الإنسانية والمواطنة، وأبناء بلد واحد بالهوية وبالمشاعر وبالمصالح، نرفض التفرقة، ولن نقبل بالفتنة، ولن ننجر إلى ما يخطط له المتآمرون. وهنا أقول وأكرر إن أكبر الحرام ابتزاز الشارع بالطائفية، وتسخير قطع الطرقات من أجل مركز سياسي، أو منافسة على موقع حكومي، يكون مضرجا بدماء الناس وأمنها ووجعها ومعيشتها وتعاسة أيامها ونهب أسواقها”.
وتابع: “بتعبير موجز، الطائفية السياسية التي تعتاش على آلام الناس هي أكبر الحرام، وأشد حرمة منها أن تتحول متاريس وقطع طرق وقتلا وحرقا على الهوية والانتماء. فما نحن مقبلون عليه أيها الإخوة خطير وخطير جدا، إذا لم نعمل معا على حماية بلدنا، ونتفق معا على كيفية إنقاذه وحمايته من السياسة الفاسدة والساسة الفاسدين، إذ لم يعد مسموحا لأحد أن يلعب لعبة الشارع بخلفية سياسية وطائفية وابتزازية، كفانا قتلا للناس، وكفانا ذبحا باسم الطائفيات، كفانا تمزيقا للبنان، كفانا متاجرة بجوع الناس وبؤسها وانهيار عملتها الوطنية، كفانا تباكيا على لبنان، فيما العيون شاخصة على الصفقات وعلى العائلة وعلى التجارات الخاصة، كفانا إصرارا على لبنان المتصرفية والطائفية والمزرعة العائلية والإرث التاريخي الذي لم نحصد منه إلا ويلات الحروب والمحاصصة الطائفية، كفانا انتحارا ونحرا لهذا البلد، ولعبا بشوارعه وخطوط تماسه المذهبية والطائفية”.
وقال: “نعم بالفم الملآن أقول وبالصوت العالي لكل القيادات الروحية والوطنية: يجب تأكيد العيش المشترك والسلم الأهلي على أرض الواقع، يجب تأكيده فعلا وفعالا، لا شعرا وشعارا، يجب أن ننقي عقول شعبنا وناسنا من الأحقاد، يجب أن نبذل أنفسنا ودماءنا من أجل سعادة شعبنا وناسنا، يجب تطهير السلطة والقضاء والإدارات من الفساد، لا يجوز الارتهان للطائفية وكوابيسها. وعليه، ودفعا للأسوأ، وحماية للبلد من الارتطام والزوال، يجب الإسراع بتشكيل حكومة إنقاذ، حكومة غير مرتهنة إلا لمصلحة اللبنانيين، وغير متمسكة بشرق أو غرب إلا بما يخدم استقرار لبنان ويحصنه في مواجهة لعبة الإفقار والتجويع، وبدعة الوكالات الحصرية والغرف السوداء المشبوهة. فالكل يتعامل مع هذا البلد على طريقة جوعه يتبعك، وهذا أمر خطير وغير مقبول، وهو من مسؤولية الحكومة الجديدة التي ينبغي أن تتصدى لهذا الأمر وتوطن نفسها على اتخاذ قرارات مصيرية كبيرة بحجم أزمة البلد، وهذا يحتاج إلى قامات وطنية جريئة حاسمة تعرف كيف تخرج البلد من هذا المهوار، وكيف تتعامل وتستفيد من أي أحد دون قطيعة مع أحد، وإلا فلبنان سيكون تابعا وألعوبة بيد من يقرر نجدته، مع العلم أن التجربة التاريخية مع الغرب كانت تجربة حافلة بالاستنزاف والابتزاز والخوات السياسية”.
واضاف: “عليه، نحن نحذر بشدة من تعامل بعض الدول مع الجمعيات الأهلية على حساب دور الدولة، فتاريخ وكالات التنمية حافل بقيادة الانقلابات وتمزيق قدرة البلدان الداخلية، وبخاصة لبنان، الذي جعلته ساحة صراع ومنصة رسائل لخدمة الكيان الصهيوني على حساب المنطقة، وبالخصوص لبنان الذي دفع ويدفع الأثمان غالية عن فلسطين، لا بل عن كل العرب، الذين وبكل أسف يهرولون إلى التطبيع ومصالحة هذا العدو الذي يتمادى في احتلاله وعدوانيته، محظيا بدعم غير مسبوق، دوليا وأطلسيا، ويتهددنا يوميا في البر والبحر والجو، ولا من يردعه أو يقول له، كفى إن اللعبة انتهت، إلا هذه المقاومة التي بإيمانها وبثباتها على الحق وبحرصها على وحدة لبنان وسيادته واستقلاله ستبقى إلى جانب هذا الجيش الوطني ومعها كل اللبنانيين للدفاع عن لبنان، وتأكيد حقه وحق شعبه بأرضه وبثرواته البرية والمائية مهما غلت الأثمان وكبرت التضحيات، لأن معركة الحق لا حياد فيها ولا جلوسا على التلة”.
وختم قبلان: “نعم في مناسبة يوم تضحيات سيد الشهداء وبكل ما تعنيه عاشوراء الحسين من تضحيات هزت عالم السماء، نستذكر الإمام القائد السيد موسى الصدر، نستذكره قيمة وقامة وطنية وإنسانية ودينية وأخلاقية، لنؤكد أن نهجه وفكره وسلوكه كان ولا يزال ضمانة وطن وبلد وإنسان. لذا، نطالب كل القوى الوطنية والإسلامية وكل أحرار العالم، نطالبهم جميعا بكشف هذه القضية، وجلاء ملابساتها، إكراما وإجلالا لتضحيات هذا الإمام الذي قدم الكثير لهذا البلد ولم يبخل لا على لبنان ولا على اللبنانيين بجهد أو بمسعى أو بحوار أو بدعوة إلا وكان في مقدمة الصفوف، مناديا ومطالبا بنظام عادل في هذا البلد، نظام عابر للطوائف، نظام قادر على تطوير البلد وضامن لسلمه الأهلي وعيش أبنائه المشترك الذي لا بديل ولا غنى عنه، مسخرا كل إمكانياته من أجل وقف حرب الفتنة بين اللبنانيين، حاميا بصدره وعمامته وعباءته المسلم والمسيحي، رافضا كل سياسات العزل، عاملا من أجل لبنان المقاوم، لبنان اللاطائفي، واللاإقطاعي، لبنان الواحد الموحد. نعم في ذكرى اختطافه وتغييبه ندعو أنفسنا وأنفسكم إلى كلمة سواء ننقذ بها بلدنا، مستلهمين من هذه القامة الوطنية المفاهيم التي آمن بها من أجل لبنان”.