الثورة تخيّب جعجع مرتين
من «ثورة الأرز» الى «ثورة تشرين»، عبثاً يحاول سمير جعجع قيادة الشارع. 15 سنة مرّت، تغيّر فيها الكثير سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لكن عقارب الساعة متوقفة في معراب. الثابت أن فشله في تنصيب نفسه قائداً لشارع 14 آذار، قابله فشل آخر اليوم في قيادة شارع الانتفاضة
عام 2005، وفور عودة العماد ميشال عون الى لبنان، عمل الأخير على توسيع أفق زعامته. بنى منظومة سياسية تحيط به قوامها مسيحيو 8 آذار. فكانت تحالفاته مع حزب الطاشناق والنائب ميشال المر والحزب القومي وكل الشخصيات البارزة في البيوتات السياسية التقليدية، كجيلبيرت زوين ويوسف خليل ومستشاره الحالي سليم جريصاتي وآل لحود وغيرهم. سريعاً، ذابت زعامة هؤلاء بزعامة عون الذي استحوذ على جزء كبير من جمهورهم، في حين فشل جعجع في قيادة شارع 14 آذار المسيحي. كان يفترض به يومها، أقله، أن ينجح في استقطاب الشخصيات المستقلة الدائرة في فلك هذه المنظومة والمستقلين ذوي الحيثية المناطقية وأحزاب تصارع للبقاء كحزب الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية. لكن القوات بقيت القوات، بنفس المؤيدين، ونشأت في موازاتها الأمانة العامة لـ 14 آذار التي جذبت المستقلين والمناصرين إلى هذا الخط ممن لم تقنعهم القوات بمشروعها. كانت الانتخابات النيابية في العام 2018 مفصلاً رئيسياً في إيضاح الصورة الحقيقية: القوات عالقة بين الجدران التي بنتها بنفسها، ويشير أكثر من مستقل في قوى 14 آذار الى استحالة التفاهم مع جعجع على أي تفصيل، «لمعرفتنا المسبقة بسهولة تخليه عنا عند نضوج الصفقة؛ أي صفقة». أما السبب الثاني، فيكمن في ألفباء التحالفات السياسية التي تفرض على الطرفين الحفاظ على استقلاليتهما واختلافهما. توافق يصعب الوصول اليه مع جعجع: «الحلف مع التيار أسهل وأخف وطأة. لا وجود لتعددية الرأي في قاموس قائد معراب ولا لحلفاء سواسية. خبرنا عجرفته أيام الحرب، وها هو لم يتغيّر. صيت الـ»أنا أو لا أحد» لعون، لكن الفعل لجعجع». وبفعل هذا الامتحان الشعبي، ثبت أن دائرة رئيس حزب القوات الضيقة لم تتسع: عجزت معراب عن استمالة مناصري فارس سعيد وعن تذويب مؤيدي بطرس حرب في جمهورها. تعذر على جعجع قضم زعامة ميشال معوض و»ابتلاع» الجمهور الكتائبي، فيما ثبت أن الأشرفية وزحلة ليستا قوات. هكذا، تبدّد حلم قيادة ثورة الأرز.
وجد جعجع لاحقاً، أي عند اندلاع انتفاضة 17 تشرين، أن الفرصة سانحة لإعادة الكرّة. ومجدداً، أيضاً، استخدم الأدوات البالية نفسها. لذلك، لم يجد المنتفضون أي نقاط التقاء جدية مع أجندة القوات أسوة بالكتائب، فظلت معراب حاضرة غائبة؛ لا هي قادرة على الذوبان داخل «الثورة» كما فعل رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، ولا القواتيون قادرون على إتمام معموديتهم للانضمام الى حزب المنتفضين. وفيما نجح الكتائبيون في السير خطوة خطوة نحو المعارضة، تحولت معراب سريعاً الى «هيئة الأمر بالمعروف» التي تلاحق الناشطين خلال جولاتهم أمام منازل السياسيين، ومن بينها منزل النائب القواتي بيار بو عاصي، فتبرحهم ضرباً، وتطرد من يطلق شعارات تمس برئيسها من جل الديب، وتقطع الطرقات في الأمكنة التي لا تحبّذ المجموعات قطعها. يقول بعض الناشطين في المجموعات الرئيسية، إن القوات «تحاول عبثاً، منذ انطلاق التحركات، فرض أجندتها الخاصة المختلفة عمّا نريد فعله حقاً. غاب التنسيق بيننا، وفعلياً لم يكن هناك أي ممثل حزبي قواتي خلال اجتماعاتنا. كانت تصلهم قراراتنا بالتواتر، فيختارون التي تعجبهم ويشيطنون الأنشطة التي لا تناسبهم. العلاقة مع الكتائب مختلفة، إذ انضووا ضمن إطارنا العام، يناقشون أفكارنا كأي مجموعة أخرى، ولا يسعون الى فرض أي برنامج علينا». المشكلة الأكبر مع القوات تكمن في محاولة جعجع قيادة «الثورة»، التي تعتبر أن أبرز نقاط قوتها هي في عدم تسمية قادة لها. لا بل، وفق البعض، سعى رئيس حزب القوات الى «تهذيب» الانتفاضة وتغيير شعاراتها، ولا سيما شعار «كلن يعني كلن»… الى أن تثبت معراب أنها لم تعد «واحدة منهم». وعليه، ضاقت ساحة التلاقي مع «ثورة تشرين» وتوسعت الهوة بين القوات والناشطين. الهوة السياسية شيء وتمسك جعجع بالنظام الطائفي الذي يحميه شيء آخر. يريد المنتفضون دولة مدنية وقانون زواج مدني وقانون انتخابات نيابية على أساس الدائرة الواحدة مع اعتماد النسبية، بينما تعارض القوات كل ما يمت الى هذه العناوين بصلة تحت عنوان: «الخوف من السلاح». قدّم النواب المعارضون أوراق اعتمادهم الى «الانتفاضة»، واندفعوا الى الاستقالة، بالخروج من البرلمان بهدف خلق بيئة ضاغطة تدفع باتجاه انتخابات نيابية مبكرة، فأفشلت القوات خططهم بتراجعها عن الاستقالة، من دون أن يمل القواتيون مذذاك من إيجاد تبريرات لما حصل، سوى أنه كان مطلباً خارجياً. في الأصل، أي انتخابات فرعية اليوم، ستضع جعجع بمواجهة المستقيلين الذين أحرقوا نيابتهم.
يؤكد ناشطون في «مجموعات مدنية» أن لا مكان لرئيس حزب القوات بينهم
أزمة القوات كبيرة، رغم نفي مصادرها ذلك، وتأكيدها أن معراب لم تحد يوماً عن مبادئها وليست في وارد تغييرها خدمة لأي مشروع أو حزب أو مجموعة: «القوات حزب سياسي فاعل وله جمهوره، يصعب أن يذوب ضمن أي حزب أو حركة، بل إن العكس صحيح، لأن لنا تاريخاً نظيفاً في مجلسَي الوزراء والنواب، وخبرة لا يمتلكها من يحاولون إيجاد إطار لأنفسهم اليوم في الشارع». بناءً عليه، يقف سمير جعجع اليوم وحيداً، بلا حلفاء ولا مشروع اقتصادي أو اجتماعي أو مالي، ولا إنجازات ولا فريق منتج أو نواب منتجين مثلهم مثل وزرائه السابقين. الأهم أن الغطاء الخارجي الذي كان ينتشله في كل مرة ويعيده الى الحياة، ملأ مكانه بمن يجد أنهم أكثر إفادة منه على جميع المستويات. نقل الأميركيون، والخليجيون بدرجة أقل، استثماراتهم من الأحزاب التقليدية الى هيئات المجتمع المدني، سواء تعلق ذلك بالدعم السياسي أم المالي. لم يعد جعجع ذا نفع للأميركيين وملفاتهم الملحّة: ترسيم الحدود، سلاح حزب الله وتأليف الحكومة. استهلكته الادارة الأميركية، ولمّا انتهت صلاحيته، استبدل بمن هو أكثر إفادة لمشروعها. في الغربال الأميركي، يتساوى جعجع مع ممثلي السلطة السياسية الذين سوّقوا للتسوية الرئاسية وللصفقات والتحالفات التي تلتها، وصولاً الى تأكيد حزب القوات هذا الأمر بنفسه بعد تراجعه عن الاستقالة. وهو ما دفع بديفيد شينكر الى استثنائه من لقاءاته التي ضمّت النواب المستقيلين. وما جنون جعجع واستعراضاته العسكرية واستفزازاته غير المفهومة وخطابه المرتفع تجاه رئيس الجمهورية وحزب الله إلا محاولة يائسة لاسترجاع ما سُلب منه.
الأخبار _ رلى ابراهيم