مقالات

مخرج «التغريبة الفلسطينيّة» صاحب بصمة أصيلة ومتفرّدة: حاتم علي… الجدار الأخير للدراما السورية

دمشق | آخر ما نتوقّعه في دفتر الكارثة السورية، خبر رحيل حاتم علي في هذا التوقيت المبكّر. ليست شائعة هذه المرّة، فقد عاجل موقع ويكيبيديا على إغلاق القوس على تاريخ الغياب (1962- 2020). صدمة الثلاثاء السوري المرّ لا تشبه سواها لجهة الشجن والفجيعة والطعنة المباغتة. هكذا استدعى الخبر مرثية جماعية: حرقة، رحيل موجع، خسارة فادحة. كان حاتم علي هو الجدار الأخير للدراما السورية التي تعيش حالة احتضار منذ سنوات. هناك شعلة في آخر النفق تقودنا إلى الضوء بأعمال نوعية لا تنسى أنجزها هذا المخرج المتفرّد كي تكون جزءاً من الذاكرة البصرية المحمولة على ثراء درامي ينطوي على بصمة فكرية وطموح تنويري ينأى عن الخفّة التي ابتلعت الشاشة. خريطة شاسعة بتضاريس نافرة توثّق تاريخاً موازياً من موقع الضدّ، من دون شعارات برّاقة أو استسهال. هكذا صعد سلّماً إبداعياً، خطوة وراء خطوة. من خشبة مسرح القنيطرة بعد النزوح القسري عنها إلى ممرّات المعهد العالي للفنون المسرحية، إلى الشاشة. لم نتوقّع أن ذلك الشاب النحيل في مسلسل «دائرة النار» (إخراج هيثم حقي) بشخصية ثانوية ثمّ مساعداً لمعلّمه في الإخراج، أن يضع توقيعه لاحقاً على عملٍ بأكمله. هكذا اجتمعت خبرة هيثم حقي بثقافة وذكاء حاتم علي لولادة مخرج درامي ببصمة أصيلة، ستزداد لمعاناً من عملٍ إلى آخر على صعيد الصورة والموقف. إذ لطالما أثارت بعض أعماله جدلاً لجهة القضايا الإشكالية التي تطرحها دراماه بطبقاتها المتعدّدة، فهناك مسافة بين أيقونة «التغريبة الفلسطينية» أكثر الأعمال الدرامية تأريخاً للوجع الفلسطيني، وعمل آخر مثل «الملك فاروق»، وما بينهما مسلسل «عمر»، و«فنجان الدم»، بالإضافة إلى «ثلاثية الأندلس»، و«صلاح الدين الأيوبي».

لقد قيّض لأعمال حاتم علي ورشة من الكتّاب النوعيين مثل ممدوح عدوان في «الزير سالم»، ووليد سيف في «ثلاثية الأندلس»، وريم حنا ودلع الرحبي في «الفصول الأربعة» و«عصي الدمع». تكمن نباهة هذا المخرج إذاً، باشتغاله على الحذف والكثافة لا الثرثرة، وعلى محاكمة التاريخ من جهة، ونبش الأوجاع الاجتماعية من جهةٍ ثانية. فقد كان مسلسل «الفصول الأربعة» مثلاً، مرثية أخيرة لاندحار الطبقة الوسطى، وإشارة مضمرة إلى قبح الطبقات البديلة، فيما كان «التغريبة الفلسطينية» وسيبقى إحدى العلامات الاستثنائية في إعادة كتابة وجع التهجير الفلسطيني، ما جعل معظم المحطات العربية المتواطئة تستبعده عن شاشاتها المنهمكة في تصدير التفاهة والتسلية الممجوجة. لطالما كانت كاميرا حاتم علي مقياساً للفرجة الرصينة التي تجذب المشاهد لمتابعتها بناءً على حلف مسبق لثقته بأنه أمام وجبة درامية مختلفة ومدروسة في بلاغة الأداء وجمالية الصورة والكوادر المشبعة، فههنا زاوية نظر تتيح للعدسة التقاط الظلال برؤية ورؤيا احترافية، وضعت هذه المشاريع في مقامٍ آخر، بدليل إعادة اكتشاف خصائصها في كل مشاهدة جديدة لها.

منذ فترة قصيرة، أعادت محطة «لنا» بث مسلسل «التغريبة الفلسطينية» فتابعناه بشغف، وكأنه يُعرض للمرّة الأولى، وربما بحنين أكبر، نظراً إلى الجرعة التوثيقية العالية لدراما النزوح، وفضح درجة انتهاك الحق الفلسطيني وغياب العدالة الدولية عن هذه القضية يوماً وراء يوم. لم يكتف حاتم علي بالمنصة السورية، وإنما وقّع أعمالاً مصرية أضفت نكهة جديدة ومختلفة لهذه الدراما، أبرزها مسلسل «أهو ده اللي صار» الذي حمل شحنة بصرية لافتة، وضعت اسمه بين أهم صنّاع الدراما في العالم العربي. كما لا يمكننا أن نتجاهل حضوره في السينما، وإن بشكلٍ موارب، إذ حقّق مجموعة من الأفلام التلفزيونية، قبل أن يوقّع فيلمه المهم «الليل الطويل» عن نصّ لهيثم حقي، بالإضافة إلى فيلمَي «سيلينا»، و«شغف». كلّ هذا الصخب على الشاشة، يقابله صمت شخصي، وخجل ريفي، وعصامية بناها صاحبها بثقافة متراكمة، منذ أن أصدر مجموعته القصصية «موت مدرّس التاريخ العجوز»، مروراً بعمله في المسرح، ووصولاً إلى مشروعه التلفزيوني المبهر. كان حاتم علي يتهيّأ لإخراج نسخة سينمائية من «الزير سالم»، ربما كان يفتّش عن بطلٍ مضاد في زمن الهزائم، وها هو الزير سالم يموت مرتين!
مرّة أخرى، سنردّد: يا له من ثلاثاء مرّ! وكأن على السوريين أن يطووا كوارث العام بمصيبة لا تُحتمل، بعبارة «ذبحة قلبية». غاب القلب المتعب من نزوحٍ إلى نزوح: الجولان، مونتريال والقاهرة.

الكاتب: خليل صويلح – الأخبار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى